هذا ما أفكر فيه بعد مرور سنة على الحرب..

08 أكتوبر 2024
08 أكتوبر 2024

ترجمة: أحمد شافعي -

ترى ما الذي أفكر فيه الآن في ذكرى مرور عام على حرب حماس وحزب الله وإيران وإسرائيل؟ أفكر فيما تعلمته من أستاذ الاستراتيجية بمدرسة الدراسات العليا التابعة للبحرية الأمريكية البروفيسور جون أركويلا، وهو أن الحروب جميعا تنتهي إلى سؤالين بسيطين: من يفوز بالمعركة على الأرض؟ ومن يفوز بمعركة القصة؟ وما أفكر فيه اليوم هو أنه حتى بعد عام من الحرب أنزلت فيه حماس وحزب الله وإسرائيل ألما رهيبا على قوات بعضهم بعضا ومدنييهم، لم يفز أحد منهم فوزا حاسما بمعركة الأرض أو بمعركة القصة. فبعد مرور عام على السابع من أكتوبر لا تزال هذه الحرب هي الحرب العربية الإسرائيلية الوحيدة التي لا تحمل اسما وما لها من فائز واضح، لأنه ليس بين مختلف الأطراف من حقق نصرا واضحا أو يمتلك قصة صالحة.

بوسعنا، ويجدر بنا، أن نتعاطف مع الفلسطينيين المحرومين من دولة ومع العرب في الضفة الغربية إذ يعيشون تحت وطأة المستوطنات والقيود الإسرائيلية، ولكن في رأيي ما من شيء يبرر ما فعله مهاجمو حماس في السابع من أكتوبر، من قتل وتشويه وخطف وإساءة معاملة لأي إسرائيلي وقع تحت أيديهم، دونما هدف أو قصة عدا تدمير الدولة اليهودية. ولو أنكم تعتقدون مثل اعتقادي بأن الحل الوحيد هو دولتان لشعبين أصليين بين نهر الأردن والبحر المتوسط، فقد عطلت حماس بهجمتها ذلك الحل تعطيلا هائلا.

وما القصة التي تحكيها إيران؟ أن لها بعض الحق بموجب ميثاق الأمم المتحدة في أن تساعد على إنشاء دول فاشلة في لبنان وسوريا واليمن والعراق لكي يتسنى لها زرع وكلاء لها هناك بهدف تدمير إسرائيل؟ وبأي حق ساق حزب الله لبنان إلى حرب مع إسرائيل لم يكن لشعب لبنان أو حكومته قول فيها ويدفعون الآن ثمنها الباهظ؟

لكن هذه الحكومة الإسرائيلية ليست لديها هي الأخرى قصة صالحة في غزة. فقد كان واضحا أن هذه ستكون أقبح الحروب الإسرائيلية الفلسطينية منذ عام 1947، لأن حماس زرعت نفسها في أنفاق أسفل بيوت غزة ومدارسها ومساجدها ومستشفياتها. فلم يكن من الممكن استهدافها دونما خسائر كبيرة بين المدنيين. ولذلك فقد ذهبت منذ البداية إلى أنه كان لزاما على إسرائيل أن توضح أن هذه الحرب ليست محض حرب للدفاع عن نفسها وإنما لتدمير حماس أيضا ليكون ذلك مخاضا لشيء أفضل، هو الحل العادل المستقر الوحيد الممكن أي دولتين لشعبين.

ورفضت حكومة بنيامين نتنياهو الإسرائيلية أن تفعل ذلك رفضا قاطعا، إلى حد أنها بعد عام لم تخبر شعبها أو جيشها أو موردي أسلحتها الأمريكيين ما الذي تريد إقامته في غزة بدلا من حماس أو ما الذي تريده أصلا عدا "النصر المطلق". وفي ظل استمرار إسرائيل في قصف المدارس لقتل قليل من مقاتلي حماس المختبئين داخلها وتعجز عن تفصيل أي مستقبل لأهل غزة سوى الحرب الدائمة، فإنها تشعر وكأن قتل آخر أعضاء حماس هو الهدف، بغض النظر عمن يموتون في سبيل ذلك من مدنيين. وهذه حرب أبدية سوف تقوض كلا من مصداقية إسرائيل وأمريكا وتحرج حلفاء إسرائيل العرب.

لكن الافتقار إلى قصة صالحة يضير إسرائيل من أوجه أخرى. فالإسرائيليون مطالبون بإرسال أولادهم وبناتهم كل يوم لخوض حرب ضد حماس وحزب الله، وهم لا يعرفون إن كانوا ذاهبين إلى حرب لإنقاذ دولة إسرائيل أم لإنقاذ رئيس وزرائهم سياسيا.

ولأن هناك أكثر من سبب كاف للاعتقاد بأن بيبي يريد استمرار هذه الحرب لتكون له ذريعة لتأجيل الإدلاء بشهادته في ديسمبر في محاكمته بالفساد، ولتأجيل عمل لجنة تحقيق مستقلة في عجز حكومته عن منع أسوأ هجمة على اليهود منذ الهولوكوست ولمنع إجراء انتخابات إسرائيلية جديدة بل ولتوجيه محتمل لانتخاباتنا الرئاسية لصالح دونالد ترامب. إن شركاء نتنياهو العنصريين المنتمين إلى اليمين المتطرف قد أخبروه أنهم سوف يطيحون بحكومته في حال موافقته على إيقاف حرب غزة قبل تحقيق "النصر الكامل" غير محدد الصفات على حماس، وفي حال إتيانه بالسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية ـ التي تبنت عملية أوسلو للسلام ـ للمساعدة في حكم غزة بدلا من حماس، وذلك أخشى ما تخشاه حماس.

وغياب القصة هذا يلحق بإسرائيل أيضا ضررا استراتيجيا. فكلما كان لإسرائيل شريك فلسطيني شرعي، من قبيل سلطة فلسطينية بعد إصلاحها، ازدادت فرصها في الخروج من غزة وعدم الإشراف على تمرد دائم هناك، وازداد عدد الحلفاء الراغبين في المساعدة على تكوين قوة دولية لتملأ أي فراغ في جنوب لبنان، وأصبحت أي ضربة عسكرية إسرائيلية لإيران مفهومة باعتبارها تأمينا لسعي إسرائيل إلى إقامة سلام مع الفلسطينيين، لا تأمينا لضم إسرائيل للضفة الغربية وغزة وهو ما يسعى إليه بعض شركاء نتنياهو في اليمين المتطرف.

ليس بوسعي أن أقطع بوجود شريك فلسطيني شرعي لسلام آمن مع إسرائيل. لكن بوسعي أن أقطع بأن هذه الحكومة الإسرائيلية فعلت كل ما في وسعها لمنع ظهور هذا الشريك بتقوية حماس في غزة على حساب السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.

إنه لمن الجنون ببساطة في ظني أن تقول الإمارات العربية المتحدة لإسرائيل إنها سوف ترسل قوات عسكرية إلى غزة لإقرار السلام فيها بالمشاركة مع الولايات المتحدة وقوات دولية أخرى، وأن تشير المملكة العربية السعودية إلى أنها مستعدة للتطبيع العلاقات مع إسرائيل والمساعدة في دفع تكاليف إعادة إعمار غزة وفتح الطريق لعلاقات بين الدولة اليهودية والعالم الإسلامي كله، ويرفض نتنياهو حتى الآن ذلك كله لأن من شأنه أن يقتضي من إسرائيل فتح محادثات مع السلطة الفلسطينية بعد إصلاحها حول حل الدولتين وأن تدعو السلطة الفلسطينية رسميا الإمارات العربية المتحدة وغيرها للمساعدة في تأمين غزة.

وإنه لأمر كارثي من ناحية أخرى غير بالغة الوضوح. لقد وجهت إسرائيل للتو ضربة قاصمة لقيادة حزب الله. بوصفها عملية عسكرية محضة ـ تجمع بين التكنولوجيا العالية والاستخبارات والضربات الدقيقة من سلاح الجو الإسرائيلي ـ فهي عملية سوف تدرسها الجيوش في شتى أرجاء العالم. لكن هنا تكمن المشكلة: يمكنني أن أقطع لكم بأن الطيارين والجواسيس والتقنيين الإسرائيليين الذين أنتجوا هذه العملية كانوا هم أنفسهم المتظاهرين الإسرائيليين وقادة المعارضة للانقلاب القضائي الذي حاول نتنياهو القيام به قبل غزو حماس، وهي محاولة انقلابية قسمت البلد وشجعت غزو حماس وتصعيد حزب الله، وقد تم تحذير نتنياهو من ذلك قبل الحرب.

قبل أشهر قليلة من السابع من أكتوبر، دُعيت إلى لقاء عبر تطبيق زوم مع مئات من الطيارين المقاتلين الإسرائيليين فأبدوا امتنانا لمعارضتي للانقلاب القضائي. وسألني أحدهم رأسا إن كان ينبغي له البقاء في إسرائيل أم الرحيل عنها، فقلت إنني ليس بوسعي أن أجيب هذا، ولكن ذلك كان تذكرة لي بمدى أهمية القصة التي يرويها البلد في حرب.

لم يعلمني أحد عن التوتر بين قصص أولئك الطيارين وقصة بيبي ـ وتداعياتها على مصير إسرائيل ـ مثلما علمني دان بن ديفيد أستاذ الاقتصاد بجامعة تل أبيب الذي يرأس مؤسسة شوريش للبحوث الاجتماعية والاقتصادية. فقد كتبت إليه أسأله عن رأيه في ذكرى مرور عام على السابع من أكتوبر، وإليكم رده الذي بعثه لي عبر البريد الإلكتروني:

"كان عمر أمي ثلاث عشرة سنة عند تهريبها من بغداد إلى فلسطين خلال الحرب العالمية الثانية. وأبي حط رحاله هنا يتيما، بعد أن ذبح الجيران اللتوانيون أباه عند دخول النازيين. وفي أعقاب حرب الاستقلال انضمت وحدتا أبوي في الجيش لإقامة كيبوتز مالكيا على الحدود اللبنانية (وفي ذلك الكيبوتز التقيا للمرة الأولى وتزوجا، وقد أصبح مدينة أشباح خلال السنة الماضية). هذه هي قصة حياة أسرتي، ولكن بتغيير الأسماء، تجد بين يديك تمهيدا لتاريخ إسرائيل".

ومضى بن ديفيد قائلا إن ذلك الجيل "حرص على أن يفهم أبناؤه وأحفاده أهمية الحفاظ على إسرائيل ملاذا آمنا لشعبنا، مقاما على الديمقراطية وسيادة القانون". وتلك الأولوية، أو تلك القصة، "كانت الخيط الفولاذي الذي ربط كل جيل بجيلنا المؤسس. وهي التي تخلق وضع التفرد لإسرائيل، لا بالمقارنة فقط مع الذين يريدون إبادتنا".

"انظر إلى أوكرانيا وروسيا وكيف كان عليهما أن يصدرا قوانين لمنع الرجال الأصحاء القادرين من الرحيل عن البلد خلال الحرب. أما إسرائيل فعندما تتهدد، تجد الطائرات ممتلئة لا بإسرائيليين يحاولون الفرار من جحيم محتمل وإنما بمن يتركون كل شيء في الخارج ـ من مدارس وعمل ووظائف ـ ليرجعوا إلى الوطن للدفاع عن البلد، وينتهي الحال بكثير منهم وقد فقدوا حياتهم في ثنايا ذلك. ذلك دافع لا يمكنك شراؤه بالمال".

أشار بن ديفيد إلى أن تجنيد إسرائيل للبالغين من العمر ثمانية عشر عاما من الرجال والنساء "يمد الجيش بقمة الطيف البشري في إسرائيل" وهذه هي المجموعة التي "دمرت قيادة حزب الله واعترضت أكبر هجوم صاروخي باليستي في التاريخ".

"هذا الخيط الفولاذي هو الذي أنقذنا على مدار عقود، وذلك تحديدا هو الأمر بالغ الخطورة في استراتيجية فرق تسد التي يتبعها نتنياهو محليا وتعلي مصالحه الشخصية على ما عداها. وها نحو أولاء في أصعب الفترات في تاريخ إسرائيل ونتنياهو يواصل تمزيق الخيط. وبعيدا عن تشجيع أتباعه على اعتبار أسر الرهائن والطيارين والأطباء وكل من يجرؤ على انتقاد الزعيم العظيم أعداء للدولة، فإنه لا يمتلك خطة للخروج من الأزمة العسكرية العميقة، ولا ميزانية للأزمة الاقتصادية العميقة، ولا نية لتجنيد الأرثوذكس المتطرفين في جيش هو بحاجة ماسة إلى قوة تحل محل القوة التي فقدها. لأن كل هذا قد يدفع حلفاءه في اليمين المتطرف إلى الانقلاب عليه".

وإذن ففي الذكرى الأولى للسابع من أكتوبر، أجد نفسي مستغرق التفكير في حقيقة أن إسرائيل تقاتل حربا متعددة الجبهات بينما لا يعرف الإسرائيليون هل هم يقاتلون من أجل إسرائيل آمنة للديمقراطية اليهودية أم آمنة من أجل بقاء رئيس الوزراء السياسي، وآمنة من أجل ألا يضطر المتطرفون الأرثوذكس إلى الخدمة في الجيش أبدا، وآمنة من أجل أن يعلن رئيس الوزراء للعالم أنه يدافع عن حدود الحرية في غزة ولبنان بينما يدعم محرك الاستيطان الفاسد أخلاقيا والمستنزف اقتصاديا في الضفة الغربية.

إن أكبر خطر على إسرائيل اليوم ليس إيران أو حماس أو حزب الله أو الحوثيين. فبوسع إسرائيل الموحدة أن تهزمهم جميعا. ولكنه أولئك الذين يقطعون خيط إسرائيل الفولاذي، برداءة قصتهم.

• توماس فريدمان كاتب مقال رأي في نيويورك تايمز ومؤلف كتاب "الطريق من بيروت إلى القدس".

** خدمة نيويورك تايمز