هـجــومُ إيــران في الميـزان
يَـحَـار المـرءُ في تـفـسيـر نـازلـةٍ سياسـيّـة تَـعْـرِض نـفـسَها في شـكـل مـفارقـة: انـتحـالُ مـوقـفٍ مّـا ونـقيـضِـه في الوقت عيـنِه، ومن غيـر أن يـأبـه صاحـبُ النّـقيـضيْـن لِـمَا يـنـطوي عليه موقـفـه من صارخِ التّـناقـض! تلك حـالُ كـثـيـرٍ من الكـتّـاب العـرب المنـاوئـيـن لإيـران، المشـنِّـعيـن على سياساتـها بالغُـدُوِّ والآصال، المُـصِـرّين على النّـظـر إلى مـوقـفها من قـضيّـة فـلسطيـن بحسـبانـها مـادّةً لِـ«المُـتَاجَـرة السّـياسيّـة» قصـد تعظيـم المكـانـة السّـياسـيّـة الإقـليـميّـة والـدّوليّـة... إلى آخـر الكـلام الأجـوف الذي يُـمْـطِـرنا بـه هـؤلاء عـن إيـران و«وكـلائـها» في المـنـطـقة!
نعـم، يَـحَـارُ في تـفـسيـر تلك القـفـزة البـهـلوانـيّـة في الهـواء بيـن القـولِ إنّ إيـرانَ أعجـزُ من أن تـردّ على جريـمـة «إسـرائـيل» في دمشـق والقـولِ إنّ ردَّهـا كـان مجـرَّد مسـرحيّـة محبوكـة بخيـوط التّـفاهُـم مع الإدارة الأمـريـكـيّـة! يَـقْـطعون، في القـول الأوّل، بعـدم قـدرتها على اتّـخاذ قـرارٍ بالمواجهـة المباشرة، وبأنّ قُـصارى ما يسـعها فعْـلُـه أن تُـوعِـز إلى «وكـلائها» بأن يقـومـوا نيـابـةً عنها بالـردّ فـيـتـلـقّـوْن عنـها ضربات العـقـاب. ويـتسـتّـرون، في القـول الثّـاني، عـن انـفـضاح حجّـتـهم المشروخة من طريق الإيـحـاء بـأنّ إيـران ما أقدمت على الـردّ إلاّ بعـد أن تـفاهـمـت على حـدوده «المتـواضعـة» مع إدارة بايـدن! هي، في عـقـولهم الصّـغيـرة، عاجـزة من جهـة، وقـادرة على الردّ بطريـقـتهـا من جهـةٍ أخـرى. وهـؤلاء هُـمْ أنـفـسُـهم الذين دَرَجـوا على المزايـدة على إيـران، لا حـبّـا في فـلسطيـن وحرصًا على حـقوق شعـبها، بـل رغـبـةً في إحـراجـها وكـشْـف «جُبْـنـها». وما إنْ تُـقْـدِم على فـعـل ما كـانـوا يـزايـدون عليها في شـأنـه، حتّى تَـراهم يـرفعـون العقائـر مُـنْـذِريـن بما يـنـتـظـر بلـدانـنـا وشعـوبـنا من أفعـال إيـران من ويْـلٍ وثـبـور ومن عظـائـم الأمـور.
وراء هـذه المـفارقـة منـطـقٌ ممـجـوج: سـوفسـطـائـيّ تـتـجاور فيـه الأضداد. لـكـنّ تـفكـيرًا فـقيـرًا إلى النّـزاهـة والمـوضوعـيّـة، ضَـحْـلًا ونـزَّاعـًا إلى المضاربـات السّـياسيّـة والأيـديـولوجيّـة يكمن وراءها أيضًـا. لذلك لا يـرى إلى الأشيـاء بمـنـظار الواقـع والعـقـل، بـل بمـقـتضـى الهـوى. والأغـربُ أن يـعـتـرف كـتّـابٌ «إسـرائـيـلـيّـون» بـوطأة الضّـربة الإيـرانيّـة على كيـانـهم، وبدقّـتـها في إصـابة قـاعـدتـيـن عسـكـريّـتـيـن في فلسـطيـن المحـتـلّة، فيما يـستـكـثـر كـتّـابٌ عـربٌ على إيـران أن تصـيـب مثـل هـذا الحـظّ من النّـجـاح في الاقـتـصـاص لـنـفـسها من الجريـمة، لمجـرّد أنّـها إيـران؛ أي ذلك البـلـد الذي يـنـبـغي له، في عـقيـدتـهم، أن لا يتـمتّـع نظـامُـه السّـياسـيّ بـأيّ مشـروعيّـة تـمـنـحها قضـيّـةُ فـلسطـيـن لِـمَـن يـناصـر شعـبـَها!
بعـيـدًا مـن هـذه المـفارقـة والعـقـلِ الصّـغير الذي تـدور فيه، تـبـدو الصّـورة مخـتـلفـةً، تـماما، حتّى عـنـد الأعـداء وحلفـائـهم الغـربـيّـيـن الذي هـبّـوا، جميـعًا، لنـجـدتـهـم من وابـل المقـذوفـات عليهم. ما من أحـدٍ من هـؤلاء يسـتـهيـن بإيـران: لِـعِـلْـمِهـم، ابتـداءً، أنّـها قـوّة إقـليـميّـة كـبرى ذاتُ شـأن في السّـياسـات الـدّوليّـة؛ ولعلـمهـم بـما تعـنيـه قـضيّـةُ فـلـسطيـن ضـمن منظـومـة المشـروعـيّـة السّـياسيّـة للنّـظـام الحـاكـم فيـها؛ ثمّ لِـعِـلْـمهـم بما تـمـتـلـكه من أدوات قـوّةٍ في مواجهـة الكـيان الصّـهـيـونيّ، بما فيها قـوى المقاومـة الفـلسطيـنـيّـة واللّـبـنانـيّـة (التي يُـطـلق عليها هـؤلاء الكَـتَـبَـة نعـت «الوكـلاء»!)؛ وأخيرًا لِـعِـلْـمِهـم بأنّ صـراع إيـران ودولـة الاحتـلال ليس مسـرحيّـةً سياسيّـة، بـل حـقـيقـةٌ من حـقائـق السّـياسـة في المنـطـقة والعـالـم. لذلك يحـسبـون لهـذا البـلـد ألـف حسـاب ويـأخـذون تهـديـداتـه على محـمـل الجِـدّ، ويُـبْـدون المَـخافَـة من قـدْراتـه الاستـراتيـجيّـة المتـناميّـة: العـلميّـة منها والعسـكـريّـة، على ما تـبـيّـنَـت علائـمـها في ضـرْب العـمـق الصّـهـيـونيّ.
والحـقُّ أنّـه أيًّـا كـان مـوقـفُ المـرء مـن إيـران ومـن سياساتهـا؛ وأيًّـا كـانت جـراحـاتُـنا من أفـعالـها بالعـراق، في العشـريـن عـامًـا الماضيـة، ومـا خـلّـفـته من آلامٍ في النّـفـوس لم تُـشْـفَ وقد لا تُـشْـفَـى، فإنّ النّـزاهـة تـقـتـضيـنا الاعـتـرافَ لهذه الـدّولـة بالاقـتـدار الكبير في إدارة الصّـراعـات، والحُـنـكـة السّيـاسيّـة والـذّكـاء الاستـراتيـجيّ في جبْـه التّـحـديّـات. إنّ دولـةً تمـلك قـرارها الوطـنيّ المسـتـقـلّ، وتمـلك الشّـجاعـة السّـياسيّـة لمعاقـبـة من اعـتـدى عليها من أجـل صـوْن كـرامتها الوطـنيّـة، لـهـيَ دولـةٌ تـسـتحـقّ الإعجـاب فـعـلًا. يكفي أنّها كانت تـدرِك مـقـدار ما يـنـطوي عليه قـرارُهـا بتـأديب الكيـان الصّـهـيـونيّ من جسيـم التّـبـعات، فما تـردّدت -مع ذلك- في الثّـأر لشـهـدائـها في القـنـصلـيّـة المـعـتَـدَى عليها. كانت تـعرف أنّـها لا توجّـه ضربـةً إلى دولـة الاحتـلال فحسب، بـل إلى الغـرب كـلِّـه: الذي هـبَّ لإنـقاذهـا، ولكـنّ نـداء الكـرامـة فيها كـان أعلى. ثمّ يكـفـي أنّ تـهـديـدها لإدارة بايـدن بضـرب القـواعـد العسكـريّـة الأمريـكـيّـة في المنطقة إنْ شـاركت واشنـطـن في العـدوان عليها، إلى جـانب دولة الاحـتـلال، أثـمـر ثـمرتـه بإعـلان بايـدن امـتـنـاع دولـتـه عـن مشاركـة الكـيـان أيَّ ردٍّ على إيـران. وحـدها الـدُّول التي يُـقام لـها اعـتبـار تَـحْـمل الأمـريكـيّـيـن على النّـزول أمـام تحـذيـراتها.ضـربةُ إيـران للكـيـان منـعـطـفٌ اسـتـراتـيـجيّ في المـواجهـة مع العـدوّ سيُـنـجـب معـادلاتٍ جـديـدةً في المنـطـقـة وصـراعِـها الـرّئـيس. أسـاء الكيـان تـقـديـرَ ردّ فـعـل إيـران واستـصـغَـر شـأنـه، نظيـر إسـاءتـه تقـديـر عـزم «حمـاس» والمقـاومـة قبـل 7 أكتـوبـر؛ وأسـاء معـه حسابَـه بجـرّ أمـريـكا إلى مواجـهـة مبـاشـرة مع إيـران، وكانت النّـتيـجـة الصّـفـعة الشّـديدة التي تلـقّـاهـا على وقـاحـتـه. وسيكـون عليه، منـذ عـمليّـة 14 أبـريـل 2024، أن يـنـتظـر ردًّا مبـاشـرًا من إيـران على كـلّ عـدوانٍ منـه على قـواها وليس من حـلـفائـها مثـلـما اعـتـاد في الماضي؛ وهـو ما سيُجـبـره على ضـرب الأخـمـاس في الأسـداس قبل التّـفـكـير في ذلك، أو على طلب التّـواضُـع في مـغامـراتـه ضـدَّهـا إنْ غـامـر...