هجوم إسرائيل على غزة يفضح ثغرات الإيمان الليبرالي المزعوم
شيء غريب يجري. لعله خلل ما أو عطل. الساسة الليبراليون الذين يأبون الدعوة إلى وقف لإطلاق النار في غزة أو إيقاف الدعم لإسرائيل ما عادوا منطقيين، ويبدون أكثر فأكثر وكأنهم يمرون بأزمة. تزداد اللغة الشائهة والتصريحات المتناقضة شيوعا على ألسنة شخصيات تنتمي إلى المؤسسة. حينما سئل كير ستارمر عما لو أن قطع المياه والإمدادات أفعال تقع في دائرة القانون الدولي قال في بث إذاعي مباشر إن إسرائيل «لها ذلك الحق الأكيد». ثم زعم حزبه أنه لم يقل ذلك على الإطلاق. وحينما قال ستامر إن حزب العمال لن يعترف بفلسطين من جانب واحد، قال وزير الظل في حزبه ديفيد لامي لصحيفة فايننشال تايمز إن حزبه سوف يدرس الأمر.
ولا تتضح هذه التناقضات مثلما تتضح حينما يعرب الساسة عن دعمهم المطلق لأفعال إسرائيل مع تعبيرهم في الوقت نفسه عن الخوف على المدنيين في غزة. ففي منشور على موقع إكس، بدا أن وزيرة التنمية الدولية في حكومة الظل ليزا ناندي تدعم تعليق التمويلات لمنظمة الأونروا، أي وكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين، لأن «مزاعم على هذه الدرجة من الجدية تستوجب رد فعل جادا» مع «السعي [أيضا] إلى الحصول على تطمينات» من رئيس الوزراء بأن تقديم الدعم يمكن أن يستمر. كان عليَّ أن أقرأ ذلك التصريح مرات عدة في محاولة لأن أفهم ما الذي تريد الوصول إليه. في الوقت نفسه، قال ديفيد كاميرون إنه «قلق» من أن إسرائيل ربما انتهكت القانون الدولي، لكن هذا لم يغير موقف المملكة المتحدة من تصدير السلاح إلى إسرائيل. فحلوا لي هذا اللغز.
قد نطلق على هذه النزعة اسم سياسة شرودنجر. لقد قال وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن إن السابع من أكتوبر لا يمكن أن يعد رخصة لـ«نزع صفة الإنسانية» عن الآخرين، لكن حكومته اختارت مرتين تفعيل حق تجاوز الكونجرس لإمداد إسرائيل بالمزيد من السلاح.
وهذا التنافر هو نتيجة طبيعية لمحاولة التوفيق بين موقفين لا يمكن التوفيق بينهما. فالحقائق سافرة الوضوح على نحو يعجز معه أي شخص عن أن يواجهها ويستمر منطقيا في دعم أفعال إسرائيل في غزة. لذلك يلجأ الساسة إلى التفسيرات المتناقضة والجامحة في بعض الأحيان لاجتناب التنديد بهذه الأفعال أو المطالبة باتخاذ أي إجراء حيالها. فتدنو النتائج من التخبط، كما حدث عندما قالت نانسي بيلوسي لشبكة (سي إن إن) إنه في حين أن بعض المتظاهرين «عفويون وطبيعيون ومخلصون» فإن الدعوة إلى وقف لإطلاق النار تعني ترديد «رسالة الرئيس بوتين». ولو أن ذلك لا يكفي، فقد قالت في العام الماضي لمتظاهرين مناصرين لفلسطين إن عليهم أن يرجعوا إلى الصين فهي «مقرهم الرئيسي».
والمتحدثون الرسميون يمشون على الحبال. فعند سؤاله عن رسالة جو بايدن إلى الأمريكيين العرب القلقين على غزة، قال المتحدث باسم البيت الأبيض إن الرئيس «مفطور القلب» ويعتقد أيضا أن «لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها». ويبدو أن بايدن ذا القلب المفطور قد استسلم تماما، وتصدع بضغط من جهود الادعاء بأن سياسة بلده حيال الشرق الأوسط مثمرة بل إنها متماسكة. فقد اعترف بأن الضربات الموجهة لجماعة أنصار الله غير ناجحة. «فهل هي تُوقِف جماعة أنصار الله؟ لا. وهل ستستمر؟ نعم». ذلك ما قاله للصحفيين.
وذلك على أقل تقدير موجز أمين، وهو يشمل الموقف الذي يبديه حلفاء إسرائيل من غزة. أهو ناجح؟ لا، لكنه سوف يستمر. وهكذا هو الأمر. لأن الحرب لا تجتاز اختبارات. لا تتسق مع المبادئ الليبرالية، وليست من الأصل منطقية بحسابات الأمن. فالشرق الأوسط في أسوأ حالة اضطراب يشهدها منذ عقود، والصراع يحيل الحياة السياسية أكثر فأكثر إلى وضع متقلب على المستوى الداخلي، وخاصة في الولايات المتحدة وفي المملكة المتحدة. ولقد وضع حزبان من «الراشدين» الوسطيين نفسيهما في موضع البديلين للمنافسين اليمينيين الفاسدين الفوضويين في عام انتخابي حاسم، ولكنهما يشعران الآن بالخوف من خسارة الدعم، ويتعين عليهما بصورة منتظمة أن يقاوما مضايقات المتظاهرين المناصرين لفلسطين.
وهذا العجز الغريب عن الاستجابة المناسبة للعدوان الإسرائيلي أمر يتجاوز غزة. فقد فضحت الأحداث الجارية هناك عيوبا في كامل نموذج السياسات وما تقوم عليه من افتراضات. فلو أن الليبرالية عاجزة عن طرح شكل من الحكم يكون أخلاقيا وداعما للاستقرار، فأي قيمة لها إذن؟ وفي غمار هذا الصراع الدموي التخريبي تاريخيا، لو أن الليبرالية عاجزة عن أن تبدي القدرة أو الرغبة في حماية الحياة المدنية والأمن الإقليمي بل وآفاقها الانتخابية الخاصة، فإن مزاعمها تنهار في ما يتعلق بالمبدأ والكفاءة اللذين يحددان مهمتها.
وحينما يصبح تراجع الأمن في العالم ثمنا مقبولا للولاء للحلفاء، فإن مطالبة الغرب بسلطة الحارس السياسي والعسكري للقانون والنظام تبدو أكثر فأكثر مطالبة واهية.
وفور أن تتبدد هذه السلطة، يتزعزع النظام من داخله. ولقد كان الإجماع السياسي الأساسي بشأن إسرائيل وفلسطين يرى منذ أمد بعيد أن أفعال إسرائيل يجب أن تحظى بدعم راسخ، وأن محنة الفلسطينيين إما أنها عقدة تستعصي على الحل أو هي -في أسوأ الحالات- غلطة يلام عليها «إرهابيوهم». وهذا الإجماع يتعرض الآن لتحدٍ، لا من المتظاهرين مجهولي الهوية فقط، بل ومن داخل معاقل وسائل الإعلام الليبرالية. ففي الأسابيع الأخيرة، أفادت تقارير أن كلا من شبكة (سي إن إن) وصحيفة (نيويورك تايمز) تعانيان خلافا داخليا بعد أن رأى بعض العاملين أن تغطيتهما مفرطة السذاجة والتعاطف مع أفعال إسرائيل.
لقد أصبحت غزة تعبيرا عن أزمة شرعية تعاني منها الطبقة السياسية الأنجلوأمريكية التي ترأس نظاما بات بالفعل هشا ويقل يوما بعد يوم ما يقدمه لشعبه، وطرحه الأساسي الذي يستند إليه هو أن بدائله أسوأ منه. وقد تبدو الأمور مستقرة، لكن من تحتها مشاعر سخط محكومة تتعلق بتكاليف الحياة، وتقلص الحراك الاجتماعي والخراب الذي أحدثته حكومات يمينية لا يقدم لها الساسة الوسطيون حلا حقيقيا.
ومثلما قال الكاتب ريتشارد سيمور ذات مرة: «في حال اندلاع أزمة في السياسة بوسعنا أن نتيقن أنها تتحدد بتراكمات التناقضات في مواضع أخرى من البنية. فالأزمات الفردية قد تمكن إدارتها، لكن المميت هو الطريقة التي ترتد بها كل هذه التناقضات على بعضها بعضا».
والاستجابة السياسية لغزة قد تبدو صعبة وملحة، لكن ما يكمن وراءها ليس القوة، وإنما هو الضعف.
نسرين مالك من كتاب الرأي في جارديان.
عن الجارديان البريطانية