نوفمبر المتجدد .. والماهيات الوطنية الثابتة
د. عبدالله باحجاج
مهما اتفقنا أو اختلفنا على مفهوم تجديد الدولة والمجتمع في شقه المادي لمواجهة تحديات معاصرة، لكننا لن نختلف على ماهياته، فهي الصالحة لكل الأزمنة والعصور، ولا يمكن أن تدخل في طور البناء المتجدد، لكننا نخشى عليها من التحديات والإكراهات التي تعترض التجديد، وهي تحديات قهرية، لذلك، فمناسبة نوفمبر المتجددة بين عهدين سياسيين، عهد السلطان الراحل قابوس بن سعيد، طيب الله ثراه، وعهد صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله ورعاه، الذي جعل من نوفمبر استمرارية متجددة للعيد الوطني في سلطنة عُمان، مناسبة مواتية للتذكير بماهيات الدولة والمجتمع الثابتة، وذلك حتى لا تؤثر فيها التحولات والمتغيرات الناجمة، وتظل حاكمة لمسيرنا الجديد مهما كانت التحديات والإكراهات.
يمكنني حصر الماهيات في الآتي:
- منظومة الولاء والانتماء للبنى الفوقية والتحتية.
- التسامح والتعايش في ظل استمرارية التعدد والتنوع الفكري والمذهبي.
- الحب والسلام والهدوء التي تميز الشخصية العمانية.
- سياسة العفو واستيعاب ما يظهر مختلفا مع المسير، وإعادة دمجه في المسيرة الوطنية حتى بعد إدانته والحكم عليه بعقوبات مشددة.
وطوال الخمسين عاما التي شكلت عصر السلطان الراحل قابوس بن سعيد، طيب الله ثراه، من 1970 إلى 2020، تجسدت تلكم الماهيات في الدولة والمجتمع، وإذا ما احتكمنا لمعنى مفهوم "نوفمبر المتجدد أو النهضة المتجددة" سنرى أن تلكم الماهيات قد تجاوزت موطنها بعد أن ترسخت وتعمقت فيه، وشكلت الشخصية العمانية في إطارها الإقليمي والعالمي، وانتفعت منها الإنسانية، لأنها ماهيات تنتصر للحق البشري في الوجود، وفي العيش المشترك مهما كانت الاختلافات أو الخلافات في الأفكار إيديولوجيات وفي المصالح.
وبرزت بلادنا من خلالها، أي الماهيات، كنموذج فريد من نوعه في عالم متصارع بين داخله من جهة ومع خارجه من جهة ثانية، مكّن القوى الخارجية من استغلالها لاختراقات قواها الداخلية، مما أصبحت انتماءاتها وولاءاتها خارجية وليست داخلية، وتمكنت من تقسيم مواطنيها وتشطيرهم إلى انتماءات متعددة "سياسية وأيديولوجية" سهل معها ابتزاز الدول أو جعلها تحت ضغوطات مرتفعة لتسهيل تحقيق أجندتها الاقتصادية والجيوستراتيجية.
والتساؤل الذي يطرح في ضوء ما تقدم، كيف نحافظ على ماهيات الدولة والمجتمع حتى لا يطالها التجديد المادي والانفتاح الاقتصادي الخارجي؟ من هنا اعتبر المحافظة عليها بمثابة معركة، استلهم مفهوم المعركة من قوة الإكراهات والتحديات التي تشهدها مرحلة تجديد النهضة العمانية لمواكبة تحديات تأسيس اقتصاد متعدد المصادر الآمنة بمعزل عن النفط بسبب تقلبات أسعاره، ونضوبه مستقبلا، وقد جاءت السياسات المالية لمواجهة كورونا، لتعلو من شأن مفهوم معركة الحفاظ على الماهيات.
ويحتم المرور السنوي لنوفمبر أن نذكر بهذه الماهيات، لأنها مناسبة تستدعي الاعتزاز بها كمنجز، ولأن التذكير بها الآن له ما يبرره كما سيأتي ذلك لاحقا، وسنتبنى هنا مقاربة المقارنات للاستدلال بها للتمسك بالماهيات العمانية مهما كانت التحديات والإكراهات المالية، وذلك لقناعاتي بمنهجية المقارنات في زيادة الوعي السياسي، وتحصين الأفعال التنفيذية، وجعلها تبحث عن خيارات أخرى إذا ما اصطدمت خياراتها الأولوية بالخطوط الحمر لتلكم الماهيات، وهنا أطرح مجموعة مقارنات في شكل التساؤلات التالية:
- هل سمعنا طوال الخمسين سنة الماضية وحتى الآن، عن عمليات إرهابية تخريبية داخلية أو إرهاب خارجي مصدره عماني – لا قدر الله؟
- هل سمعنا يوما أن الأراضي العمانية كانت مصدرا للمساس بأمن واستقرار الدول المجاورة رغم جغرافيتها الكبيرة والمعقدة والصعبة التي يصعب السيطرة عليها – جبال، بحار، سهول، أودية - وتحتم فاتورة مالية ضخمة، وكذلك وقوعها قرب جغرافيات سياسية تحتضن فروعا لقوى إرهابية ومسلحة، وتشهد مجتمعاتها فقرا مدقعا، وجهلا ومرضا شاملا؟
- "صفر من 10 ´في الإرهاب لبلادنا وفق التصنيفات العالمية، وهي بذلك الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط في هذا التصفير، الآمنة والمستقرة داخل سربها رغم تحديات جغرافيتها.
التساؤل البحثي عن الأسباب.
- لماذا ظلت سلطنة عمان في منأى عن الإرهاب طوال مسيرتها الماضية رغم تموقعها الجيوستراتيجي والسياسي في منطقة ملتهبة؟
لا يمكن للحلول الأمنية أن تنتج هذه الصفرية، وديمومتها الزمنية، ولن أستعين بمراجع مكتوبة ولا شفهية لكشف سر هذا النجاح، لأنني شاهد عيان على تجربة التأسيس والديمومة لتلكم الماهيات، لذلك، يمكنني أن أرجعها لسببين متلازمين، هما العفو والتسامح السياسي، والدور الاجتماعي للدولة، فسياسة "عفا الله عما سلف" كانت انطلاقة التأسيس والترسيخ، نقلة البلاد من حالة التجزئة في الجغرافيا والديموغرافيا، الى حالة الوحدة والاندماج، وقد اختبرت هذه السياسية في الكثير من الأحداث المتعاقبة، والنتيجة؟ إنها استوعبت الكل في مسيرتها، والأهم أنها لم تترك خلفها أحداثا سياسية أو اجتماعية يمكن أن تعرقلها أو على الأقل تنشغل بها.
بينما تم توظيف العامل الآخر المتزامن، وهو الدور الاجتماعي للدولة العمانية الحديثة نحو استيعاب المجتمع عبر تأمين أساسيات معيشته وحياته الحديثة، وجعل الأمل الاجتماعي الفردي والجمعي يعانق الممكن في رحاب المستقبل حتى في ظل وجود مجموعة تحديات بعد عام 1996.
هكذا تأسست الدولة العمانية الحديثة، ومعها تم صناعة المجتمع الولائي والانتمائي تعزيزا لروابطه العميقة بالوطن، فالدور الاجتماعي للدولة من الثابتة الحاكمة للاستقرار في البلاد، وقد لمست أمس الأول اعتدادا من لدن عاهل البلاد حفظه الله ورعاه بالدور الاجتماعي للدولة في عدة مسارات أساسية أبرزها، الترقيات للموظفين الحكوميين بأقدمية 2011، وتثبيت أسعار الوقود، وإلغاء حزمة من الرسوم، وتخفيض رسوم أنشطة أخرى، فقدر بلادنا المستدام، أن يكون الدور الاجتماعي للدولة ثابتا، مهما كانت التحديات، بحيث يظل العامل السياسي كابحا لجنوح السياسات المالية الراهنة والمستقبلية.
وينتظر المجتمع الآن ملامسة انعكاسات تلكم الاستدراكات على واقعهم المعاش بصورة ملموسة، كما ينتظر المتقاعدون ممن أحيلوا مؤخرا للتقاعد الإجباري استحقاق ترقياتهم المشروعة المؤجلة، والكرة الآن في ملعب التطبيق الحكومي، وهذه فرصة مواتية الآن لعودة التفاؤل الاجتماعي بعد ما سحب من السيكولوجيات الاجتماعية بفعل تصريحات غير ذكية، وبفعل الجنوح نحو سياسات مالية قاسية على المجتمع، وينبغي عدم تفويت هذه الفرصة بعد مرور أكثر من عام على تطبيق خطة التوازن المالي، وما نجم عنها من المساس بالتفاؤل الاجتماعي، وتدخل المقام السامي الآن يفتح الباب لمراجعات عاجلة لمسارات مالية معاصرة.. والتفكير بالدور الاستراتيجي للدولة الاجتماعي لدولة كسلطنة عمان، وهذا موضوع مقالنا المقبل.