نهج العلاقات العمانية الإيرانية
تمتاز العلاقات العمانية الإيرانية بتاريخها الحافل بالتفاهم والإيجابية؛ فقد احتفظت عُمان بعلاقاتها التجارية والسياسية والاقتصادية والثقافية مع إيران، ووسَّعت بذلك الروابط التاريخية التي تجمع البلدين سواء على المستوى الحضاري أو الجغرافي، إضافة إلـى تأسيس أواصر فكر التسامح والمحافظة على الثقافات والهُويات التي تميِّز البلدين، فأصبحت بذلك مثالا للتفاهم والدعوة إلى السلام ليس على المستوى الإقليمي وحسب بل على المستوى الدولي.
ولأن عُمان تسعى إلى توثيق أواصر المحبة والإخاء بين بلدان العالم، فإنها تعمل بشكل حثيث على تفعيل دورها الداعم للسلام بين إيران والعالم من خلال تلك الوساطات المستمرة التي تقوم بها على الدوام؛ حيث قدمت أدواراً إنسانية عدة ليس آخرها الوساطة بين إيران وبلجيكا لتسوية قضية الرعايا المتحفظ عليهم. إنها أدوار تأسست على مبادئ الثقة وحسن الجوار، والحوار الفاعل، الذي يُسهم في الحفاظ على أمن المنطقة، ويدعم المساعي الدبلوماسية التي تقوم بها لحل القضايا الإقليمية والدولية، ودورها الفاعل في تعزيز السلام والتفاهم بين شعوب العالم؛ فالأمن الذي تسعى إليه عُمان لا ينحصر على الأمن العسكري بل يتعداه إلى الأمن الاجتماعي والاقتصادي، الذي يقتضي سياسة حكيمة في التعامل مع القضايا الدولية في ظل الكثير من التحولات الجيوسياسية التي تؤثر مباشرة على القضايا الأمنية في العالم.
ولهذا فإن التغيرات والصراعات التي تشهدها الدول خاصة في الأمنين الاجتماعي والاقتصادي، تؤكد أهمية الرؤية التي تأسست عليها عُمان في علاقاتها الحاسمة والثابتة مع الدول الإقليمية والعالمية؛ فالحفاظ على الخصوصية التاريخية والحضارية من ناحية، والتفرُّد في ثبات المواقف والرؤى من ناحية أخرى، يجعلها الدولة القادرة على المساهمة الفاعلة في الحفاظ على الأمن الإقليمي، وبناء علاقات متوازنة مع دول العالم، يحكمها الحوار البنَّاء، والاحترام المتبادل، والثقة، والسلام والتفاهم والانفتاح.
إن الرؤية التي تأسَّست عليها عُمان في علاقاتها الخارجية تنطلق من مبادئ وقيم إنسانية وحضارية لها تاريخها العريق؛ فهي لا تقوم على المواقف بقدر ما تتأصَّل وفق هُوية إنسانية أثبتت قدرتها على الديمومة حتى في ظل المتغيرات والتحديات التي عصفت بالمنطقة والعالم. ولهذا فإن الزيارات التي يقوم بها السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ إلى بلدان العالم تأتي ترسيخا لهذه المبادئ وتأكيدا للدور المحوري الذي تقوم به عُمان، إضافة إلى سعيها إلى تعزيز ذلك الدور من خلال بناء شراكات وتعاونات، تُسهم في توثيق تلك المبادئ وتأصيل قدرتها على الديمومة.
ولعل زيارة جلالة السلطان المعظم لطهران اليوم تحمل الكثير من آفاق التعاون المشترك في مجالات الاستثمار والتبادلات التجارية، التي شهدت نموا متزايدا خلال العامين الماضيين كما تخبرنا إحصائية المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، التي أشارت إلى أن (إجمالي الصادرات العمانية إلى إيران بلغت في عام 2022 حوالي 207.4 مليون ريال ... بنسبة ارتفاع قدرها 244 ٪) مقارنة مع صادرات عام 2021. الأمر الذي يشير إلى قدرة البلدين على الشراكة والتكامل في الكثير من القطاعات التجارية والاستثمارية في المجالات المختلفة.
إن العلاقات بين عمان وإيران تعود إلى حقب تاريخية عدة، ويجمع بينها تاريخ حافل من التعاون المشترك ليس على المستويات الاقتصادية والتجارية والأمنية وحسب، بل أيضا على المستوى العلمي والثقافي؛ فقد شهدت العلاقات بين البلدين تعاونات وتبادلات على مستوى الترجمات، والفنون، والصناعات الحرفية وبعض الصناعات الإبداعية، وكذلك على المستوى الإعلامي والطباعة والنشر؛ فقد شهد الوسط الثقافي مجموعات من التفاعلات والتعاونات بين مؤسسات البلدين، سواء في مجال السينما، أو الفنون التشكيلية والتصوير الضوئي، أو الترجمات المتبادلة التي تبنتها مجموعة من المؤسسات، إضافة إلى الدور الذي يقوم به (مركز تعليم اللغة الفارسية) في عُمان، وذلك التعاون المشترك الذي تقدمه المؤسسات من خلال الفعاليات الثقافية والعلمية، التي تسعى إلى زيادة تفعيل ذلك التعاون ومناقشة القضايا الثقافية والاجتماعية التي تخص البلدين.
ولعلنا نلاحظ أن هذا التعاون والتبادل في المجالات الثقافية بين عُمان وإيران، ينطلق من مبادرات تحاول المساهمة في إنعاش الحِراك الفكري والثقافي بين البلدين والاستفادة من الثراء الذي تتميَّز به كل منهما؛ فما قدمه النادي الثقافي والجمعية العمانية للفنون، وغيرهما من المؤسسات، إضافة إلى المشاركات الفاعلة في معارض الكتب والمعارض الفنية والثقافية بين البلدين، وكذلك التعاون المشترك في مجال الصناعات الحرفية والنحاسية والعطريات، كلها تنضوى ضمن مجموعة من الممارسات الثقافية التي تُسهم في تفعيل الحِراك الثقافي في البلدين، وتأصيل مبدأ الانفتاح على الآخر والإفادة منه فكريا، وأدبيا، وعلميا وفنيا.
والحال أن الثراء الثقافي والحضاري الذي يتميَّز به البلدان يحتاج إلى توسعة قادرة على دعم الخطط والرؤى التي يتطلعان إليها؛ ذلك لأن قطاع السينما في طهران مثلا يُعد من بين القطاعات الرائدة على مستوى العالم، فما قدمه المخرج عباس كياروستامي الملقب بـ (فيلسوف السينما الإيرانية) منذ عام 1970، من رؤى فنية وصلت إلى العالمية، إضافة إلى ازدهار الصناعات الإبداعية المرتبطة بالدراما والتلفزيون، يمكن الإفادة منه في تطوير هذا القطاع من خلال برامج فنية مؤسسية تهدف إلى تطوير الرؤى والقدرات الإبداعية بما يُسهم في إنتاجات فنية متعددة.
إن تطوير العلاقات الثقافية بين البلدين والمساهمة في التبادلات التجارية الخاصة بهذا القطاع، سيُسهم في توسعة تبادل الخبرات، وتدريب الكفاءات الفنية والإبداعية، ودعم تنظيم إدارة هذا القطاع، وفتح آفاق جديدة للتعاونات والاستثمارات الثقافية، وبالتالي دعم القطاعات الإبداعية الناشئة بما يُعزِّز دورها التنموي في البلدين، وتطوير قدرتها على المساهمة الفاعلة في دعم مفاهيم السلام والتفاهم والمحبة بين الشعبين؛ فالاستثمار الثقافي يُسهم من خلال تفاعلاته وتبادلاته الفكرية والأدبية والفنية في تأصيل تلك المفاهيم وتطويرها وفقا للمتغيرات التي تطرأ على العالم والمنطقة.
وبالتالي فإن هذه العلاقات لا تُطوِّر مفاهيم العمل الثقافي ووسائله وأساليبه وحسب، بل إنها تمنح المشتغلين في القطاع فرصا واسعة لتطوير مهاراتهم وقدرتهم على حل المشكلات، إضافة إلى الدور المفصلي الذي تؤديه في تقريب وجهات النظر وتفعيل الحوار الإيجابي البنَّاء، وتنمية قدرة المجتمع على التفاعل الإيجابي مع المتغيرات الطارئة، والاستفادة من التقنيات التي تتميَّز بها كل دولة، بما يخدم التعاون المشترك في المحافل والمعارض العلمية والفكرية والفنية المختلفة.
إن التعاون بين سلطنة عمان والجمهورية الإيرانية يقوم على دعائم تاريخية وحضارية وجيوسياسية متميَّزة وفريدة، يحكمها الحوار والثقة المتبادلة وحسن الجوار، الأمر الذي جعل منها علاقة راسخة، ولهذا فإن البلدين يسعيان دوما إلى مد جسور التعاون والتفاعل الإيجابي والتبادل المشترك، بما يعزز هذا التاريخ ويمكِّن شعبيهما من الاستفادة من المعطيات التي يقدمها كل منهما للآخر، بُغية ترسيخ التعاون الإيجابي المشترك، لذا فإن علينا أفرادا ومؤسسات تفعيل هذا التعاون من خلال المشاركة الفاعلة الإيجابية، والإفادة مما يفتحه هذا التعاون من منافذ الحوار والدعوة إلى السلام، والتبادل الإبداعي الذي يُسهم في تطوير الطاقات الإبداعية الشابة.
عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة