نـقـد الـكـلـيّـات المغـلَـقـة

31 يوليو 2024
31 يوليو 2024

لا تـقـدم لـغـة المـطـلـقات والكـليـات المـغـلـقـة أدوات إجـرائـيـة مناسبـة للاسـتـخـدام العلـمي، وللـبحث في ظـواهـر الاجتـماع والتـاريخ والثـقافـة. من البـيـن أن التـعمـيم الغالب على مفاهيـمـها ليس ذا فائـدة لأنـه لا يـقـبـل الانـطـباق على الموضوع الذي يصـفه انـطـباقـا كـليـا إذا كان يمـكنه أن ينـطبـق على أبـعاض فـيه. وهـو إلى ذلك تعيـيـن يـنـمـط الموضوع المتـنـاول تـنـميطـا يمـنع الفـكـر، تمـامـا، من الـدخـول إليه ورؤيـة عـالمـه الـداخـلي بكـل ما يحـفـل بـه من تـعـدد وتـناقـض واخـتـلاف. في الظـاهر، تبـدو لغـة الكـلـيـات المغـلـقـة وكـأنـها تحـوي مـفاهيـم مجـردة تَـدُلُـنا على مـوضوع مُـتَـصَـوَر، أي على ظاهـرة مـا تُـدرَك بأدوات التـميـيـز النـظـريـة. ولكـن سرعان ما نُـدرك، عنـد التـدقـيق، أنـها لغـة بـرانـيـة عـن كـل تجـريـد نظـري حقـيقي ونـزاعـة إلى الابـتـداه والتـنـميط! إن الفارق كبيـر بين المَـفـهَـمة والتـنـميـط؛ لا تُـلغـي عملـيـةُ المَـفـهمـة ما في المـوضوع - الذي تـتـناولـه - من تـناقـض داخـلي وهـي تبـني عنه مـفـهـوما/ تصـورا، بينما ينـتـهي فـعـل التـنـميط للموضوع المتـنـاول إلى تعلـيـبـه ومـركـزتـه على معـنـى واحـد يتـكـرر ويلـتـغي بـه ما في داخله من تبايـنات.

حـينـما يحـكـم أحـد مـنـا - عـربـيـا ومسلمـا كان أو غـربـيـا - على التـراث العربي الإسلامي، مثـلا، بأنـه متحجـر وجامـد، أو بأنه اجتـهادي وتـراكمي فهـو لا يفعـل، في حقـيقة الأمـر، أكـثـر من إصدار حكـم عـام قـد ينطبـق على جزئـيات في ذلك التـراث ولكنـه لا ينطبق على كـلـيـتـه بالضرورة. وهـو، بهـذا المعنى، تعيـيـن فاسـد حتى من وجهـة نـظر المنـطق الأرسطي ناهـيك بفساده لجهة مجافـاته لحقـيقة تـكوين ذلك التراث وتطـوُره وما يزدحمُ به داخلـه من نـزعات في الفـكـر والنـظر متبايـنة. لذلك، لا يقـدم مثـلُ هـذا التعـيـين للموضوع، المتوسـل للـغـة الكـلـيات، أيَ توصيـف دقـيق لـما ينطوي عليه الموضوع ذاك من وجوه لا يقـوم بينها تَماثُـل البَـتـة؛ وجوه هي، على الأغلب، صورة لاعـتـمال تـيارات متعارضة فـيه تأخذ منـتـوجَه في اتـجاهات متعـددة. إنـه (= التعـيـين) من نوع التـنمـيط الحاجب للإدراك: الذي يُـشعـرك، شكـلـيا، بحيازة تعـريـف عـن الموضوع فـيما هـو يسوق وعـيك نحو الوقـوع في الأغـاليط!

هـذا النـوع من الأحـكام العامـة ومـن حـمـل الكـلام على معاني الإطـلاق والكـليـات المغـلـقـة هـو، على الحقـيقـة، السـائـد في دوائـر الباحثـيـن في الـدراسات العربيـة الإسلاميـة: الكـلاسيكـيـة والحديثـة. وفي هذا يستوي الـدارسون العرب لـه والـدارسون الغربـيـون على غيـر ما يعـتـقـده الكـثيرون من الذين يضعون هـؤلاء في مقابل أولئـك، فـينسُبـون أحـكام القـدح في تراثـنا والحـط منـه إلى الغربـيـين، وأحكـامَ التـلمـيع له والتـبجيـل إلى العـرب والمسلـميـن. نحن لا نـنـفي، طبـعا، أن يكون هناك بعـضٌ من علامـات التـقابُـل والخلاف بين نظرة هـؤلاء ونظرة أولئـك إلى تراث العـروبة والإسلام؛ لأن الأمر يتعلـق، هنا، بفـئـتيـن من الـدارسين لا تـقوم بينهـما وهذا التـراث الذي تدرُسانـه العلاقـةُ عيـنُـها على المستـويـيـن المعـرفي والعاطفـي. لكن نظيـر هـذا التـقابـل نصادفـه حتـى داخل الفـريـق الواحـد منهـما، الأمـر الذي يـوزعُـه - هـو نفـسُـه - على اتـجاهيـن. وما أغـنانا عـن القـول إن المتـخـصصيـن في مجالات تاريخ الفـكـر، والإسلاميـات والـدراسات التـاريخيـة والتـراثـيـة يعـرفون خريطـة توزيـع الآراء من التـراث، داخل ميـدان الاستـشـراق وداخل ميـدان الـدراسات العربيـة للتـراث، وكيف أنـه وُجـد من بين المستـشرقيـن مَـن غَـريَ بتراث العـرب والمسلميـن حتى بات متـعصـبا له منـافـحا عنه أكـثر من أهـله، في الوقـت عيـنه الذي ظل آخَـرون منهم يبحثون في سيرة ذلك التـراث عما يقـيموا بـه الحـجـةَ على العرب والإسلام، فلم يتـوقـف عن كـيـل الشـتائم لنصوصه ومفـكـريـه. في المقابـل، يعـرفـون كيف انقـسم الوعـي العربي على تراثـه ودخل طرفـاه في نـزاع عليه هـادف إلى الاستيـلاء عليه وإنتاج الحُـكـم الفصل فيه؛ بين مَـن حَسـبـوهُ عبئـا على حاضـرنا ومستـقـبلـنا ينبغي التـحرُر منـه، من طريـق طـي صـفحـتـه، ومن نـظروا إليه بحسبـانـه مرجـعَ اليـقيـن عـنـدهم ومـوردَ المعرفـة الحـق والبُـوصلـةَ التي بها يـهتـدون في أدغـال حاضرهـم...

انـتـقـدنـا هـذا الجـدل في مناسبات عـدة، وخاصـة حينما كان يـركَـب صـهـوة السـجال والمهاتَـرَة اللـفـظيـة فيصبح أقـرب ما يكـون إلى المضاربات الإيـديولـوجيـة الرخيصـة. لا يعـنـينـا، هنا، أن نعـود إلى تجـديـد النـظـر في هـذا المضمـون السـجالي فيـه، وإنـما غرضُـنـا أن نقـول إن كـل واحـد من هـؤلاء المُـبـجـلة للتـراث والماضي ومـن أولئـك القادحـة فيه لا يُـنـتج مقالـة فـكريـة في الموضوع، بـل يـنـتصر لـهـدف مـا يـدور في رأسـه باحـثـا في ذلك التـراث عمـا يشـهـد له ويـدُل عليه. إن كـلًّا مـن الفريقـيـن يخـوض في أحـكام عامـة عـن التـراث والماضي مَـبـناها على كلـيـات مغـلـقـة لا وجـود لها في الواقع التاريـخـي، وإنـما منبعُـها ذهـنٌ مـغلَـقٌ وفـقيـرٌ إلى الجـدل وإلى الحس التاريخي. ليس الماضي ورديـا كـلـه ولا كالـحـا كـلـه؛ إن فيـه مـن هـذا ومن ذاك: الصـالح والطـالح، الاجتـهاد والجمـود، التـفكـيـر والتـكـفيـر، التسـامـح والإنكـار، الإبـداع والاتـباع...إلخ، فكيـف يجـوز تظهيـر وجـه واحـد منـه وطمـس الثـاني؟ بعبارة أدق: إنـه ليس كـليـة مغـلـقـة مطلـقـة، بـل هـو بنيـة تنـطوي على جـدليـات مـن التـناقـض والتـفاعـل بحـيـث لا سبيل إلى مـعرفـته من دون الاعـتراف بآثـارها فـيه.

عبدالإله بلقزيز أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وحاصل على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب