نظريّة تجديد الفقه الإسلاميّ
حينما نتحدّث عن الفقه الإسلاميّ سابقا وأكاديميّا معاصرا؛ فنحن نتحدّث عن منظومة واسعة لا تتوقف عند الفتاوى وبعض أحكام النّوازل والمآلات ونحوها، نتحدّث من النّصّ وحتّى القضايا العمليّة المترتبة من الجانبين التّكليفيّ والوضعيّ، وكما أنّ شبليّ النّعمانيّ [ت 1914م] قديما وعبد الجبّار الرّفاعيّ [معاصر] حديثا كتبا في تجديد علم الكلام الإسلاميّ؛ فهناك أيضا من كتب في ضرورة تجديد أصول الفقه خصوصا، والفقه العمليّ عموما.
ولئن كان التّجديد الفقهيّ لازم حركة الإصلاح الدّينيّ في نهاية القرن التّاسع عشر خصوصا في مصر، إلا أنّه أيضا قوبل باستنكار واعتراض من التّيارات التّقليديّة والسّلفيّة، ومع الصّحوة الإسلاميّة تراجع الوضع بشكل كبير، فالتّيارات التّقليديّة ترفض فكرة التّجديد بالمفهوم النّقديّ المعاصر، وتتوقف عند رواية: "إنّ الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لها دينها"، وترى التّجديد مرتبطا بالاجتهاد للشّخوص الّذين توفرت فيهم وسائل الاجتهاد، وما عداه علمنة وتغريب وتمييع للدّين والفقه.
ومن توسع من هذا الفريق فيرى أنّ التّجديد في الوسائل لا في الفقه ذاته، ومنهم من يرى التّجديد في الخطاب بمفهومه التّبليغيّ الوعظيّ وليس بالمفهوم الأصوليّ، ومنهم من يرى التّجديد في تقنين الفقه في صورته الوسائليّة، واستنكر آخرون تقنين الفقه لأنّه يؤدّي إلى الجمود والتّعصب على رأي أو مذهب واحد، والفقه مرتبط بالاجتهاد، ومنهم من يرى أن التّجديد لا يخرج عن المذاهب الفقهية المعتمدة أصولا وتفريعا، ومنهم من يرى وفق أصولها لا يخرج عنها.
إلا أنّه في المقابل ولدت آراء مقابلة أخرى لا تقصر التّجديد على أفراد من النّاس، يحصرون فهم الشّريعة فيهم، وهؤلاء لهم توجهات بعضها أكثر انفتاحا وانشراحا، وبعضها يمشي على استحياء، فهناك من يرى التّجديد ينطلق ابتداء من النّصّ ذاته، والتّفريق بين النّصَ الأول والنّصّ التّأريخيّ، كما يجب التّفريق بين الثّابت والمتحرك، وبين المطلق والنّسبيّ الظّرفيّ، وبين المغلق القطعيّ والظّن المفتوح، ومنهم من يرى تجديد الآلة الأصوليّة ومتعلقاتها من مقاصد ومصالح ذاتها، ولئن تأثر أصول الفقه بمنطق الإغريق، وتأثرت القاعدة الفقهيّة بقانون الرّومان، فالآلة اللّسانيّة والمنطقيّة والتّفكيكيّة والنّقديّة اليوم متطوّرة بشكل كبير جدّا، فلا معنى للجمود عند آلة القرن الثّالث أو الرّابع الهجريّ، واليوم تطوّر العلم بشكل كبير جدّا، لهذا يرى بعضهم أيضا أنّ المناهج القرائيّة والنّقديّة اليوم متطوّرة بشكل كبير جدّا، وهناك قراءات العقلنة والأنسنة والظّرفيّة والتّفكيكيّة والسّيميائيّة وما بعد البنيويّة وغيرها، يجعلنا نعيد النّظر في التّعامل مع النّصّ الفقهيّ أولا، ومع التّراث الفقهيّ وأدواته ونتاجه القديم ثانيا، وليس محاولة تدوير في صورة أساليبيّة متطوّرة، بقدر ما هو حفر في النّصّ والتّراث ذاته، ومحاولة قراءته بآلة متطوّرة بتطوّر المعارف الإنسانيّة.
ولعل السّؤال القديم يتكرر اليوم أيضا، هل هكذا ولد الفقه الإسلاميّ، وهل هذا التّراث الضّخم لألف سنة ويزيد قليلا لاهوتيّ النّزعة في جملته، لهذا لمّا يربط في العقل الجمعيّ لاهوتيّة الفقه فنحن نبعد هذا العقل عن الصّيرورة الزّمكانيّة المرتبطة بالعقل الإنسانيّ طبيعيّا، فنجعله يستنسخ وقائع سابقة لها ظرفيتها، ويجعلها أصلا لوقائع مختلفة في ظرفيتها، خصوصا لمّا يتعامل مع الاجتهادات السّابقة بحرفيّة مطلقة، دون البحث في روح التّحرك، وطبيعتها الإنسانيّة والمقاصديّة.
لهذا المتأمل في التّراث الفقهيّ يجده مرتبطا بالحضور الإنسانيّ في نزعته الإنسانيّة، مع التّطوّر الزّمكانيّ، والتّأثر بالثّقافات والحضارات الأخرى، ودخول هذه الثّقافات إلى النّصّ الثّاني في مروياته، والتّأثر بمعارف الأمم من الإغريق والفرس، بل والتّأثر بالمناهج الثّقافيّة كالعقلنة والمنطق والغنوصيّة والماورائيّات وغيرها، فالنّصّ الأول أي القرآن آياته العمليّة يراها بعضهم مع المكرر لا تتجاوز خمسمائة إلى سبعمائة آية من ستة آلاف آية، أي النّسبة قليلة إذا ما أخرجنا المكرر من جهة، ثمّ إذا ما أدركنا أنّ غالبيّتها ظنيّة الدّلالة من جهة ثانية، ومجملة من جهة ثالثة، لهذا كانت المساحة للعقل الإنسانيّ في ظرفيّته الزّمكانيّة واسعة، لهذا طبيعيّا أن يتسع الاجتهاد ويتعدّد ويختلف، لهذا تكوّنت المذاهب الفقهيّة منذ فترة مبكرة جدّا، كما اضطر العقل الفقهيّ إلى وضع آلة اختلف في العديد من تفريعاتها ومباحثها، ومع ارتباط ذلك بالتّدوين الفقهيّ فنحن أمام موسوعات فقهيّة اجتهاديّة قلّ نظيرها عند الأمم الأخرى.
ومن نافلة الذّكر أيضا مصطلح الفقيه ذاته، فكان مصطلحا واسعا قبل تخصص العلوم اليوم، لهذا نجد الفقيه سابقا فيلسوفا وطبيبا ومهندسا في أحكام القسمة والطّرق، ومعنيّا بالقانون والحكامة والسّياسة، والبيوع والاقتصاد والأفلاج وغيرها، ومع التّخصّص اليوم، وتمايز الأسماء؛ لم يعد ذلك الفقيه بمعناه الشّموليّ وليس الموسوعيّ حاضرا، بل ضاقت زوايا الفقه لانفصال المناهج المعرفيّة الأخرى، من هنا حدث الاضطراب في العقل الجمعيّ؛ لأنّه فهم الفقه سابقا في بعده اللّاهوتيّ من جهة، وفي بعده الموسوعيّ الشّموليّ في جهة ثانيّة، ليسقط ذلك على رموز افتائيّة معينة، يراها موقعة عن الله، ونائبة عنه، للحديث في كلّ القضايا السّياسيّة والطّبيّة والطّرقيّة، بل وحتّى في الخصوصيات الذّاتيّة الّتي لا تحتاج إلى رأي من أحد أصلا.
هذه الضّبابيّة هي الّتي يعيشها العقل الجمعيّ اليوم في بعده الفقهيّ، لهذا لتجديد الفقه لا بدّ ابتداء من صياغة العقل الجمعي ليدرك البعد الإنسانيّ الحاضر في الاجتهاد الفقهيّ من حيث النّزعة الإنسانيّة، ومن حيث الإنزال الاجتهاديّ الإنسانيّ، بل ومن حيث اختراع الإنسان لآلة التّعامل مع النّصّ، هذا الأمر قاده طبيعيّا إلى التّخصصيّة القانونيّة والتّربويّة والاقتصاديّة والسّياسيّة والعسكريّة وغيرها من حيث كونها إنسانيّة مرتبطة بالزّمكانيّة، لا من حيث أسلمتها لاهوتيّا، وإلا سيعيش الفقه الإسلاميّ أزماته الكبرى، ابتداء من أزمة النّصّ، وحتّى أزمة الاجتهاد والخطاب والآلة والواقع المعاش.
من هنا يجب التّفريق بين روح وقيم الاجتهاد الفقهيّ المرتبطة بالإنسان، والكامنة في النّص، كالعدل والحريّة والمساواة من جهة، والمآلات والمقاصد الآيلة إليه كحفظ النّفس والمال والعرض من جهة ثانية؛ يجب التّفريق بين هذا وبين المتحرك الفقهيّ بطبيعته، وهذا لا يمكن تحقّقه اليوم إلا بمراعاة التّخصّصات المعرفيّة والعلميّة، مع العيش في الحاضر بآلاته وأدواته المعاصرة.
ما قلته سلفا لا يعني تطليق الاجتهاد السّابق في أدبياته التّراثيّة، فهي أدبيات لا يستغني عنها العقل المعاصر، ولكن يجب قراءتها ونقدها وتفكيكها والتّعامل معها بعقل العصر وأدواته وآلاته المعاصرة، ولا يعني استنساخها في زمن آخر مختلف عن زمنها، على أن تجعل في طبيعتها البشريّة المتحركة، ولا يجوز تغليفها لاهوتيّا لإضفاء قداسة تنسب زورا إلى الله تعالى، فندخل في الشّراكة معه من جهة، وفي التّعصب والجمود والتّكفير من جهة ثانية.
هذه الأدبيات بتضخمها واختلافها وتناقضها وتنازعها دليل واضح على الحضور الإنسانيّ وليس اللّاهوتيّ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النّساء/ 82]، فلا ينبغي غلق الباب اليوم إنسانيّا أمام العقل المسلم ليتعامل مع هذه المنظومات نقدا وتفكيكا وتجديدا، ليوجد منظومة تتلاءم والواقع الّذي نعيشه اليوم.
هذه المنظومة بذاتها متحركة بأدوات العصر، ووفق حضارة ومعارف العصر، لا تخرج عن دائرة الإنسان وقيمه، مع مراعاة روح النّصّ لا حرفيته الظرفيّة بطبيعتها، النّسبيّة في فهمها والتّعامل معها، ولا يصح تغليف المنظومة لاهوتيّا – كما أسلفنا - ليتكرر الخطأ ذاته، فالإنسان هو من يحفر فيها فهي ليست منزلة، وهو من يمارس اجتهاده لمصلحة المجموع البشريّ، وليس لمصالح ذاتيّة يتكسّب بها اجتماعيّا وماديّا باسم الله، أو باسم الغيب.
على أنّ يكون التّجديد مفتوحا بأفقه الواسع ليتدافع ويتهذّب، وينتج منظومات وأدوات جديدة ومتطوّرة، وبهذا يستطيع العقل المسلم أن يعيش واقعه، ويساهم في صناعة حضارة الإنسان كغيره من الأمم الأخرى.