نظريات المؤامرة.. لماذا توجد ولماذا تنتشر؟

05 يناير 2022
05 يناير 2022

من تزييف الهبوط على القمر، إلى إنتاج الفيروسات في المخابر الصينية للتربح من الجائحة، وما بينها من نظريات المؤامرة التي تزداد شعبيتها حول العالم، نسأل اليوم لماذا توجد هذه النظريات ولماذا تنتشر. إنني أُحقق في الموضوع دون افتراض وجود مُبشرين مُتنفعين يقفون خلف هذه النظريات بنوايا مُبيتة، ممارسين عملية ممنهجة لتحويل الأراء في اتجاه يتوافق ومصالحهم. بل أفترض أنها ظاهرة طبيعية، تكسب انتشارها العضوي من لاعبيها الذين يصدقون ببساطة أنهم - مثلنا جميعا - يفعلون الصواب. تُنتج فوكس ميديا مسلسلا وثائقيا يُعرض على نيتفليكس بعنوان Explained تسعى كل حلقة إلى تحليل الظواهر عبر البحث في السياقات التاريخية، وملاحظة تطور الأفكار من خلال التغير في الطرح والتناول في وسائل الإعلام عبر الوقت، وأيضا من خلال استضافة الخبراء الذين يشرحون الظواهر المتناولة. هذا المسلسل الوثائقي يأتي ضمن مساعي فوكس الريادية في مجال صحافة التفسير.

الصحافة التفسيرية Explanatory journalism أو Explanatory reporting هو نوع الصحافة الذي يحمل الطابع التأويلي والتعليلي للأخبار، فيتجاوز إنتاج التقارير الإخبارية، إلى وضعها في سياق أشمل يساعد على فهم ما يحدث، ولماذا يحدث.

تطرقت إحدى حلقات الموسم الثاني - والتي تحمل عنوان «غسيل دماغ» Brainwashing - إلى قصة ميليسا رين لي فالي Melissa Rein Lively رائدة الأعمال التي تحولت من حث الحكومة للقيام بالمزيد من أجل مكافحة الأزمة والحماية من الفيروس في بداية الجائحة، إلى فرد منخرط في نشاطات كيو أنون QAnon في منتصفها. بعد تكبد مشروعها التجاري خسائر فادحة بسبب الأزمة، وجدت ميليسا نفسها تتعرض أكثر فأكثر على الإنترنت لمحتوى يؤكد أن كل هذا هو مؤامرة محسوبة. ولأن خوارزميات الشبكات الاجتماعية ومحركات البحث عادة ما تعرض للمستخدم المحتوى الذي يتوقع أن يستهلكه فقد وجدت ميليسا نفسها في فقاعة جديدة يحمل فيها من تحتك بهم معتقدات غير التي ألفتها. انخرطت ميليسا في نشاطات كيو أنون لدرجة أنها سجلت مقطع فيديو - انتشر انتشارا فيروسيا - تدخل فيه أحد المحلات وترمي إلى الأرض بأقنعة الوجه، في نوبة غضب عارمة. رغم أن هذه الحلقة من البرنامج تهتم خصوصا بالتطرف السياسي، إلا أنها تضيء لنا جانبا مهما من القضية وهو ارتباطها بكوننا كائنات اجتماعية تتوق لتحقيق الانتماء لجماعة ما من جهة، والدوافع النفسية التي قد تُحفز على البحث عن جماعة بديلة من جهة أخرى.

يُعزى انضواء فرد ما لحركة متطرفة إلى الشعور بعدم الانتماء للجماعة، ما يؤدي للبحث عن جماعة بديلة. هذه الحاجة للانتماء ترتبط بدافع البقاء لأننا كائنات اجتماعية تستحيل نجاتها دون المجموعة. يربط الخبراء بين «الاعتقاد» و«الانتماء»: إنك تُصدق شيئا ما لأن الجماعة التي تنتمي إليها تصدق بذلك. من وجهة نظر نفسية يلجأ الأفراد إلى المجموعات البديلة لشعورهم بالضيم، ولفقدان الشعور بالانتماء ويبحثون عن تعويضات في مجموعات غالبا ما تحمل أفكارًا نقيضة للمجموعة التي قدموا منها، إنهم يأخذون على عاتقهم فعل شيء ما بخصوص عدم رضاهم عن أنظمتهم، أو ما آلت إليه مجتمعاتهم ويرون أنفسهم كصناع للثورة ونوى للتغير. لعل شعور ميليسا بالضيم إذا نتيجة خسارة جزء من مشروعها التجاري لأسباب خارجية ودون أي خطأ أو تقصير من جهتها، والشعور أن عليها أن تتحرك نحو التغيير عوامل دفعتها للبحث عن مجموعة بديلة.

موقع Big Think يُخصص ملفا حول سيكلوجيا الأخبار الزائفة، ولماذا توجد نظريات المؤامرة. يقول ميتشيو كاكو «كانت الإشاعات عبر التاريخ البشري شكلاً مهيمنًا لمشاركة المعلومات»، إننا نعتمد إلى اليوم على ما يخبرنا به الآخرون من أجل تكوين آرائنا حول العالم وحول الآخرين. صحيح أننا نملك اليوم قنوات رسمية لضخ المعلومات، لكننا أيضا واعون أن لهذه القنوات من يدعمها، وأن هذا الدعم يُحدد بشكل كبير أجندة ما تضخه. عدم الثقة هذا هو أحد العناصر المهمة في قضية شيوع نظريات المؤامرة. يقول أيضًا: «أعتقد أن هناك جينًا للخرافة، جينًا للإشاعات، جينًا للسحر، جينًا للتفكير السحري. حين كنا في الغابة، ساعدنا هذا الجين في الواقع لأنه كان مخطئا تسع مرات من كل عشرة. لم ينفعك التطير، لكن هذا الجين موجود من أجل تلك المرة الوحيدة من أصل عشر والتي أنقذك فيها. هذا هو جين الخرافات والسحر إذا، في المقابل لا جين للعلم. يعتمد العلم على الأشياء التي يمكن استنساخها واختبارها. إن المنهج العلمي عملية طويلة ومضنية. إنه ليس جزءًا من تفكيرنا الطبيعي». يمكن استخلاص عنصرين مهمين من حديث ميتشيو كاكو هذا. أولا، أننا مجبولون على رؤية الأنماط، إننا نراها حتى حين لا تكون موجودة: في السحب، في رغوة القهوة. يمكنك بعد أن تلاحظ مثل هذه الأنماط أن تجعلها موضوعا للتندر، أو أن تُحملها فوق ما تحتمل من المعاني. ثانيا، إننا حكواتيون، مجبولون على حكاية القصص. القصة ذات المغزى تُشعرنا بالرضا والأُنس. ما تمتاز به نظريات المؤامرة هو توافقها مع «تفكيرنا الطبيعي»، إذ توفر سردية بسيطة لهذا العالم المعقد الذي تتعدد وتتشابك فيه القوى وأقطاب الصراع.

في حلقة «غسيل الدماغ» التي تحدثنا عنها في البداية، عالج صانعو البرنامج التطرف السياسي مثل النازيون الجدد، كيو أنون، داعش. وقد وضعوا الشيوعية في التصنيف ذاته عند الحديث عن الظاهرة. لاحظ أنه من وجهة النظر الأمريكية، خصوصا خلال فترة الحرب الباردة، ليست الشيوعية أيديولوجيا بديلة ولكنها حركة متطرفة لا يُفهم كيف يمكن لأي فرد أمريكي الانضواء تحتها إلا إن كانت مسبوقة بعملية غسيل دماغ. يدفعنا هذا للتساؤل لأي مدى يرتبط رفض هذه الحركات بكونها خارجة عن العرف. بمعنى، هل نرفض نظريات المؤامرة لأنها تستحق الرفض فعلا، أو لمجرد خروجها عن المعتقد السائد؟

يسهل انتقاد المصدقين بنظرية المؤامرة ممن يؤمنون أيضا بكون العنف وسيلة مشروعة للتغيير؛ إذ يسهل محاكمة هذا السلوك غير الاجتماعي وتفنيد موقفهم. لكن ماذا عن الذين يرفضون العنف ويعتبرون نظريات المؤامرة آراء خاصة يُتوقع احترامها، بل وصيانة حقهم في التعبير عنها. من وجهة نظر هؤلاء مساعي مكافحة الشائعات والمعلومات المغلوطة، هي مساعٍ لإسكاتهم تحديدًا، فقط لأن آراءهم لا تتوافق مع رأي الأغلبية.

يُفرق الكثيرون في مثل هذه النقاشات بين الحقائق وبين الآراء، ويرون أن الحقائق لا جدال حولها. لكن إن كان ثمة درس تعلمناه عبر تاريخ العلم فهو عدم وجود حقائق. كل ما بإمكان العالِم أن يسعى نحوه هو مُقاربة الحقائق ودعمها بالأدلة. نقول دعمها وليس برهنتها، إذ لا يمكن إثبات أي حقيقة. فوق ذلك يمدنا العلم أحيانا بمزاعم متضاربة، ويرمي على عاتقنا واجب المفاضلة والاختيار. هذا الدرس إذا يجعل اعتمادنا على مصادر المعرفة الأخرى مثل الحدس، أمرًا مبررًا بشكلٍ ما. إن كان العلم لا يسعفنا دائما في التفريق بين المعلومات والمعلومات المغلوطة، كيف نرسم الحد بينهما إذا؟ يمكننا في هذه الحالة الالتجاء إلى بوصلتنا الأخلاقية واستخدام مبدأ الإضرار. هل يضر انتشار مثل هذه النظريات أو المعلومات المغلوطة في شيء وإلى أي مدى. مثلا حين تعتقد في أن الشاي الأخضر يُذيب دهون الكرش وتشارك هذه المعلومة مع أصدقائك فأسوأ ما قد يترتب عليها هو شربهم للمزيد من الشاي الأخضر الذي وإن لم ينفع لن يضر - حسب علمنا على الأقل. لكن ادعاء أن الشعب الآري - حسب مزاعم النازية - هو الأرفع، ونشر المعلومات المغلوطة التي تدعمه هو أمر خطير بلا شك، ولا يمكن أن يُقبل كرأي.

نوف السعيدي كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم