نظام إقليمي عربي.. أزمة وأفـق
بكثير من العسر والتردد يمكن الحديث عن نظام إقليمي عربي، اليوم؛ أعني منذ مطلع القرن الحالي. ما هكذا كانت الحال قبل عقدين، و-بالتحديد- قبل أزمة الخليج وحربه في العامين 1990-1991. كان الكلام على نظام عربي، حينها، من الأمور الجارية على مقتضى التـناسب بين التسمية والمسمى، وبالتالي، ما كان الكلام على ذلك النظام ليجري على سبيل المجاز كما هو شأنه الآن. وليس يعتـد، هنا، بوجوه من الاستدلال عليه من قبيـل الاستـشهاد بوجـود مؤسسته الإقليمية (= جامعة الدول العربية)؛ إذ من الموجودات -في الطبيـعة والتاريخ- ما يتمتع بوجود صوري أشبه ما يكون هو بالغياب! ووجود النظام الإقليمي هو بهذا المعنى. وإلى ذلك فإن نسبة الحضور الصوري لهذا الجسم السياسي (= الجامعة) في يوميات الاجتماع العربي المعاصر تضاءلت إلى حدود توشك على الرمزية لولا مناسبة القمة السنوية واجتماعات متباعدة لمجلس وزراء دول الجامعة، من خارج اجتماعاته الدورية العربية. الأهم من الانعقاد أو عدم الانعقاد المؤسسي لاجتماعات الأجهزة والمراتب فيها، أن فعاليات هذا النظام تبدو -في هذه السنوات العجاف من عمره- في حكم العـدم تقريبا؛ والأمثلة على ذلك لا عد لها ولا حصر، تكفينا منها الإشارة السريعة إلى 3 منها:
أولها: إن التفاعلات البينية داخل النظام، وبين أعضائه ومكوناته من الدول، من الضآلة والشحوب بحيث لا تتبين، ولا تتراءى نتائجها؛ والحال إن هذه التفاعلات هي عـدة نظام اشتغال كل نظام والقرينة على وجوده. وضحالة التفاعلات تلك تلحظ على الأصعدة كافة؛ على صعيد العلاقات الاقتصادية والتجارية الراكدة، والتي لا تقاس بنظيرتها القائمة بين كل دولة عربية والعالم الخارجي: الإقليمي والدولي!؛ وعلى صعيد القرار السياسي الذي لم يعد موحدا تجاه أي من المسائل التي كانت موضع إجماع عربي في ما مضى، كما لم يعد حتى تفاهـم الحد الأدنى المشترك يجد له الآلية التنفيذية النشطة؛ ثم على صعيد السياسات العليا للأمن القومي في مواجهة مصادر التهديد الخارجي، حيث تبددت منذ تعطيل الاتفاقات الخاصة به، وعلى نحو خاص عدم تفعيل «معاهدة الدفاع العربي المشترك»، ليترتب على ذلك أن أصبح على كل دولة أن تنصرف إلى شؤون أمنها الوطني الخاص بإمكانياتها الذاتية المحدودة جدا.
وثانيها: إن علاقات مكونات «النظام الإقليمي» تقطع شوطا من تاريخها في غاية السوء منذ اندلاع أحداث ما سمي بـ«الربيع العربي»، وحصول استقطاب عربي رسمي إزاءه. وما زال بلد عربي رئيس في المنظومة لم يستعـد بعد مقعده في اجتماعات الجامعة، كما أن ذيول تلك الفتنة الكبرى لم تنحسر بعد في بلدان عدة مثل سوريا، وليبيا، واليمن، والعراق، والسودان، وإلى حد ما، تونس. وعليه، ما برحت أجواء الانقسام العربي تخيم على «نظامهم» الإقليمي حتى يوم الناس هذا.
أما ثالثها: فيتعلق بمستوى التمثيل في قمم جامعة الدول العربية واجتماعات مجلس وزرائها، الذي بات دون ما كان مدروجا عليه في الماضي من مشاركة رؤساء الدول. وإذ يذهب البعض إلى القول إن تدني مستوى التمثيل هو المسؤول عن إضعاف فاعلية النظام العربي وجامعته، نميل -من جهتنا- إلى الاعتقاد بأن تدني مستوى المشاركة تعبير عن الشعور المتنامي بتراجع دور الجامعة وفاعليتها كإطار إقليمي جامع؛ وهذه هي الحقيقة المرة التي لن يسترها حضور رؤساء الدول جميعهم قممها السياسية.
ليس لأحد أن يجـادل، إذن، في أن النـظام الإقـليمي العـربي يمر بأزمة وجـوديـة. وهي -للحقيقة- ليست وليدة حقبة «الربيع العربي» العجفاء، بل تعود إلى ما قبل هذا التاريخ بعقود. ألم تكن فكرة الحاجة إلى إصلاح جامعة الدول العربية -أو إعادة بناء النظام الإقليمي العربي- مطروحة للتداول منذ نهاية سنوات الثمانينات؟ لكن هذه الحقيقة، التي كانت بينة للجميع قبل نيف وثلاثين عاما، هي أشد وضوحا في هذه الأعوام بعد الذي جرى على ساحة الوطن العربي وأطرافه من تحولات هائلة، وبعد أن انتهت أوضاعه إلى ما انتهت إليه من اهتراء وتحلـل بات أمنه أمامها في حال من الانكشاف الاستراتيجي خطير!
وليس النقد الذي نوجهه لهذا «النظام» الإقليمي العربي مصروفًا إلى القول إنا في غناء عن هذا النظام وجامعته، وما عادت لشعوبنا حاجة به. هذا نقـد عدمي، سلبي نأباه لأنفسنا ولا نرى من فائدة مرجوة منه. إن نقدنا هادف، في المقام الأول، إلى التنبيه إلى حاجتنا الحيوية -كجماعة قومية- إلى هذا النظام وأطره المؤسسية لمواجهة ما يعترضنا من عظيم التحديات: سواء بوصفنا أمة واحدة أو بوصفنا دولا متعددة؛ ذلك أن جامعنا القومي كأمة يتعزز كلما تعززت وشائج الصلة بين العرب وتعاظمت فرص تعاونهم على تنمية أوطانهم الصغيرة (التي تصب، في النهاية، في تنمية الوطن الكبير)، وهو ينفرط عقدا كلما تحـللت الروابط بينهم، بفعل الأزمات والملمات، وكاد بعضهم لبعضهم؛ ثم إننا كدول مستقلة لا نقوى بإمكانياتنا الوطنية الذاتية المحدودة -سكانا وموارد وجغرافيا ومقدرات- على النهوض بأي من أمهات الأهداف العليا: التنمية، التقدم، السيادة الوطنية والأمن، المنافسة النـدية في العالم المعاصر...إلخ، إلا إن أقدرنا تعاوننا في الإطار الإقليمي على توفير أسباب ذلك. ولذلك نحن، في الحالين، لسنا أمام ترف الاختيار بين أن نعيش بين ظهراني نظام عربي جامع يؤمن لنا الاقتدار والكفاية والمنعة، أوأن نعيش مستغنين عنه مكتفين بما لدينا من شحيح الإمكانيات والموارد، لأن مثل هذا الاختيار هو الذي يقوم بين أن تكون أو لا تكون.
النظام الذي تصدع يمكن بناؤه، بل يصبح بناؤه -حين يتصدع- في مقام الفريضة كي يقع تداركـه فلا يتهدم: من تلقاء نفسه، أو بفعل فاعل يتحين فرصة هدمه. وإعادة البناء ممكنة، قطعا، إن توفر لها شرطان على الأقل: الإرادة والرؤية. ما من سبيل إلى إحراز نجاح في ابتناء نظام رسمي عربي إن لم تنشأ إرادة حقيقية لذلك من قبل نخب دوله. ولكن الإرادة وحدها -على أهميتها ولأبديتها- لا تكفي إن لم تقترن برؤية إلى نوع النظام المأمول الذي نبغي بناءه: رؤية تكون مشتركة ويتوافق عليها من جميع أعضاء الأسرة العربية، وتكون -في الوقت عينه- ممكنة التحقق أو التجسد في استراتيجية عليا تشتق منها برامج العمل.