نسبيّـةُ الأنـا والآخـر
يُؤدّينا التّفكيرُ في ثنائية الأنا/الآخـر في الثّقافات، والسعيُ إلى تحديدها نظريّاً، إلى جملةٍ من النتائج تقوم عليها من الواقع أدلّةٌ عدّة، وقد يكون من أظهر تلك النّتائج نسبيّةُ مفهوميْ الأنا/الآخر وتعدُّدُ المَباني التي تقوم عليها ثنائيّاتهما، وتاريخيّة تلك الثنائية، ناهيك بما يكتنف العمل بها - في الفكر- من ميلٍ إلى نزعة التّمركُز الذاتي. إنّ النّتائج هذه بمقدار ما تبدو استخلاصات من عمل الثنائية تلك في ثقافةٍ مّا، تُمثّل - في الوقت عينِه - ما يشبه مقدّمات جديدةً مُسْتَـأْنَـفَة تصلُح لأن يُبنَى عليها في تحليلٍ يحاول أن يستجليَ صورةَ عمل هذه الثّـنائيّة.
أوّل ما يلحظه دارسُ تلك الثّنائيّة أو القارئ في اشتغالات الدارسين بها في دراساتهم هو تعـدُّد الأسس التي عليها مبْنى حدّيْ الثّنائيّة (الأنا، الآخر) و، بالتّالي، نسبيّتُها. بيانُ ذلك أنّ الحدّيْن هذين لا يشتغلان معاً في علاقةِ تَقابُـلٍ أو تَقاطُب إلاّ متى انعقد عملُهما الصراعي - أو الجدالي - على موضوعٍ أو مبـدأٍ مشترك، أو هو قد ينعقد على موضوعات/مبادئ عدّة تدور على واحدٍ منها أَرْأَس يكون هو المشتَرك (أي الذي يكون موْضع النزاع). وهكذا لا يَسَع أحد ذينك الحدّين أن يتمحور على مبدإٍ بعينِه فيما يتمحور مقابلُه على مبدأ آخر، لأنّ من نتائج ذلك أن يبْطُلَ إمكانُ وقوع تَقَابُـلٍ نزاعيّ بينهما هو شرطٌ لأن يدخلا في علاقةِ توتُّـرٍ وتفاعُل بينهما. وعليه، إذا كان معلوماً أنّ المبادئ المؤسِّسة لعلاقات الأنا/الآخر ترتدّ، في الأعمّ الأغلب منها، إلى عواملِ الذّاتية (= الهويّة)؛ عوامل الدّين، والقوميّة، والثّـقافة، والحضارة، والعِرْق...إلخ، فإنّ مبدأً واحداً من هذه المبادئ قمينٌ بأن يكون وحدهُ نقطةَ انعقاد جدليّة الأنا/الآخر الصّراعيّة ووَقودَها الحيويّ شريطةَ أن يكون أساساً مشتركاً لعلاقة التّقابُل والاستقطاب بينهما. وربّما أمكن، أيضاً، أن تدخُل هذه العواملُ مجتمعةً في تشكيل حالةٍ صراعية أو تفاعلية بين حدّيْ الثّنائيّة تلك، ولكن لا بدّ - حتّى في هذه الحال - من أن يكون مبدأٌ منها بعينه هو المبدأ الرئيس (أو العامل الرّئيس) الذي تدور عليه بقـيّةُ المبادئ.
يقودنا القول بتعدُّد المبادئ التي عليها مبنى الاستقطاب والتّقابل في ثنائيّة الأنا/الآخر إلى التّسليم بأنّ ظاهرة الأنا/الآخر، في الثّقافات والمجتمعات، ظاهرة نسبيّة، أي تتحدّد نسبةً إلى نوع الأسس التي ينهض عليها التّقابُل والصّراع بين حدّي الثّنائيّة. حينها، لا يعود ثمّة من معنًى (أو من تعيينٍ) مطلق لهذه الجدليّة، أي خارج الزّمان والمكان والشروط السياقـية، من قبيل القول - مثـلاً- إنّها جدلية حضارية فقط، أو دينية فقط، أو ثقافية فقط...؛ ذلك أنّ السّياقات التّاريخيّة للعلاقات بين الجماعات أو بين الثّقافات هي، وحدها، التي تُحدِّد نوع المجال والموضوع الذي يُشْتبَك عليه بين طرفيْ المواجهة. هذا، طبعاً، من غير أن نستبعد إمكان أن تندلع مواجهةٌ داخل الأنا عينِها فتنقسم على نفسها إلى فريقين ينظر كلّ منهما إلى نفسه بوصفه أناً في مواجهة آخرٍ فرعيّ. ومع أنّ الاثنين قد يتقاسمان الانتماء إلى الدّائرة عينِها: الدّينيّة أو القوميّة أو الثـقافية أو هذه جميعها، إلاّ أنّ اجتماعها على جامعٍ أو على جوامع ليس مانعاً دون أن تنموَ عواملُ التّمايز بينهما فتستجرّ انقساماً وتقاطُباً على قاعدة الثّـنائيّة نفسِها التي تنقسم على حدودها الجماعات والوحدات المُفْرَدة المختلفة.
ولأنّ جدليّة الأنا/الآخر مطبوعة بتعدّد الأسس والمبادئ التي تقوم عليها علاقات التّقابُل والتّقاطُب فيها؛ ولأنّها نسبيّة تتحدّد في ضوء شروط المكان والزّمان والسّياق، فهي خاضعة لأحكام التّاريخ، بالضّرورة، ولِمَا يجعلها - بالتّالي - متغيّرةً باستمرار، مكتسبةً لحدودٍ دلاليّة جديدة. إنّ تاريخية الأنا/ الآخر شرطٌ لوعيها بما هي جدلية يتبادل فيها طرفاها التّأثير، وإلاّ ما كانت جدليّة أصلاً. وما من شكٍّ في أنّ تاريخيَّـتها وجْـهٌ ثانٍ رديفٌ لِـمَا دعوناه بنسبيّتها؛ حيث في سياق هذه التاريخية تتحقّق النسبية. آيُ ذلك أنّ ما لا يكون - في مرحلةٍ سابقة من التّاريخ أو من الزّمن - جزءاً من كيان الأنا أو من مقوّمات الذّات أو الهويّة، بل كان في جملة ما يُنْظَر إليه بوصفه ينتمي إلى الآخر، سرعان ما قد يصبح جزءاً من تلك الأنا، في مرحلة أخرى لاحقة من التّاريخ، فلا يعود من أحكار الآخر حتّى لا نقول إنّه قد تُـتَناسى صلتُه بذلك الآخر بما هي الأصل، كما تُـتَناسى برّانيّةُ ذلك المعطى، في أوّل أمره، عن الأنا.
وليس في هذا ما يبعث على الاستغراب، لأنّ التّاريخ يفعل فعله في الجماعات الإنسانيّة والمجموعات الحضاريّة والثّقافات، فيبدّل فيها العقائدَ والعوائدَ والقيمَ ويكيّفها مع شروطٍ وتحوُّلاتٍ جديدة. وهكذا فقد تعتنق جماعةٌ إنسانيةٌ أو ثقافةٌ معتقداً مّا، أو تنتحل لنفسها مبادئ وأفكاراً من التي كانت ترفضها في الماضي، أو من التي اشتبكت معها في الماضي، وحينها يحْدُث أن يتحوّل عندها مرفوضُ الأمس إلى مقبولٍ اليوم، أي إلى جزءٍ ممّا يَسِم أنا تلك الجماعات، فتراها تستنفر قواها لمدافعة نفسها وقُنْيتها الجديدة بما هي نازلةٌ منها بمنزلة «الماهية» أو بمنزلة ما يدخل في تكوين تلك الماهية. تنسى الأنا، لحظتئـذٍ، أنّ الآخر هو مصدرُ جديدها الذي به اغْتَـنَتْ (أو أُفقِرتْ)، فتراها تَطفِق إلى نقطةٍ قَصِيّـة من ماضيها البعيد باحثةً فيها عمّا عساهُ يسوِّغ لهذا الجديد فيها شرعيّته؛ أي انتماءه «الأصيل» إلى الأنا. ولعلّها لا تكتفي بتلك المحاولة من الشرعنة والتّأصيل فحسب، بل قد تندفع إلى مجادلة غيرها في أمـرِ ما استعارتْه منه ووَطَّـنتْهُ فيها، بدعوى أنّه هو من استعاره من ثقافتها وحضارتها ونَسَبَه إلى نفسه من غير وجْه حقّ، وأنّها حين تأخذ به لا تستعيره منه هو، بل تستعيده من تراثها بوصفه واحداً من كنوزه وذخائره...
تُطْـلِعُـنا هذه التّاريخيّة، إذن، على نسبيّة مفهوميْ الأنا والآخر وعلى ما ينطوي عليه المفهومان من سيولة في المعنى. إنّها (= التاريخية) تنتهي بنا إلى ما يشبه اليقين بأن ما نطلق عليهما اسميْ أناً وآخر ليسا كيانيْن صافييْن، ناجزيْن وثابتيْن، بل هما محصّلة تفاعلات تاريخيّة عديدة وهُما، بالتّالي، يظلاّن مشروطين بأوضاعهما المتعيّنة في المكان والزّمان.