نداءات الغيب!

18 مايو 2022
18 مايو 2022

في غياب الإيمان بالغيب تضيق سعة الدنيا، وتتحدد حدودها المادية بما يسد أفق الروح عن معاينة ما وراء الإنسان. إن الإنسان في صميمه كائن غيبي، ليس فقط بالإمكانات التي يتوفر عليها؛ من ملكات الفكر والخيال التي تقوده إلى ذلك الغيب، بل وكذلك بإحساسه الغريزي بفناء الكينونة.

إن في عالم المادة شواهد على عالم الغيب، وفي الإدراك الذاتي للإنسان؛ بتناقض إرادته مع أمنياته ما يجعله قادرا على فسحة من التأمل في الغيب.

علاقة الإنسان بالغيب التي قد يظنها البعض علاقة فائضة عن الضرورات الحسية؛ هي في صميمها ضمير ذو طابع مؤرق، لأن أسئلة الكينونة التي تلح على الإنسان - مهما بلغت كثافة المادة في روحه - هي أسئلة لا يمكن أن يتفادها ككائن عاقل، يفهم من ظواهر الوجود جملة من الحقائق التي تلفته إلى ما وراء الطبيعة.

إن حضور الغيب المُشاهد في الحياة الواقعية للبشر؛ أي ذاك الذي يجعل قدرات الإنسان وطاقاته شاهدة على عجزها، هو جزء من عالم الغيب الذي لا يلاحظه أكثر الناس. فلو أمكن للإنسان التمتع بقدرات تجعله ملما بما يغيب عنه في الزمان والمكان لكان ذلك زيادة في فائض الطاقة الذي يجعله أكثر شقاءً ربما!

حضور الإنسان في العالم المادي حدث كبير وهو حدث ليس مما يمكن القول فيه أنه حدث عبثي، فذلك الحضور العابر يضيء، لكل إنسان ذي بصيرة، علامات عن الغيب بين حدي الوجود والعدم.

وإذا ما بدا اليوم ثمة انسداد في تأويل الغيب، بحسب الافتراض الذي تختزنه ذاكرة التنوير في الغرب لمفهوم الدين، بحيث لن يكون من الممكن الاعتراف بالغيب في الفضاء العام خوفا من أنه سيؤدي، بالضرورة، إلى تردد حاد للدين بين حدي الإفراط والتفريط؛ فإنه، من ناحية ثانية، ثمة إكراهات يفرضها التصميم المادي للحداثة على حيوات البشر على نحوٍ لا فكاك منه!

إن قوة الغيب الإيجابية يمكنها أن تطلق طاقات جبارة للإنسان، إذا ما تأمل ذلك الإنسان على نحوٍ إيجابي في الشروط الأخلاقية التي تحكم طباعه وقدراته.

ففي وسع الإنسان أن يقيس طاقاته الخيَّرِة والمحدودة على مثال أعلى لخالقه، حيث سيجد إمكانية عقلانية مؤمنة تدفعه لذلك، وإن كانت كيفية التصور مجهولةَ؟

إن الإحساس بإمكانية القدرة على فعل الخير المطلق كغريزة يمكن أن يتخيلها الإنسان - وهو بالقطع يتصورها في مرحلة الطفولة - إحساس ممكن تصوره، سواءً بالتخيل أو بالقدرات، لكن التصميم المادي للحداثة هو الذي يضغط بنسقه الجبار على دوائر مغلقة للعقل البشري المرتهن إلى المادة، فيجعل ذلك العقل يحكم باستحالة أن يكون الإنسان خيِّرا ودون تناقضات!

ومن هنا فإن الشرخ الذي يخلفه إلغاء الغيب في الضمير المادي للبشر، تحت ضربات وإكراهات الوعي الحديث، ينحو إلى إدراج ما هو ممكن في خانة المستحيل؛ مثل استحقاق العدل الإنساني الممكن عقلا وقدرةً، والمستحيل برسم القانون الدولي ونموذج الدولة الأمة كما هو الحال في أوكرانيا مع روسيا!

لا أحد تحت ضربات الإكراه المادي للحداثة في وسعه أن يخرق ناموسها التنويري، مهما بلغت قوته التكنولوجية والنووية!

والحال إن هذه المفارقة المتأتية من إمكانية قدرة تكنولوجية جبارة كالولايات المتحدة على تحقيق العدل للمظلوم، (وكف هذه القدرة في الوقت نفسه عن تحقيق العدل) دون اضطرار إلى ذلك، وفقط تحت إكراهٍ مادي وتواطؤ نسقي عن أن تكون فاعلة للخير؛ لهو أمر يحتاج إلى تأمل!

فالتناقض الصارخ في هذا المثال الذي سقناه آنفا؛ سيضعنا وجها لوجه حيال ما يشبه تماما؛ تساوي المنظور الأول مع المنظور الذي يقطع بإزاحة ثمرة الإيمان بالغيب من الفضاء العام تحت إكراهات التصميم المادي للحداثة وحجة فظاعات التدين الأوروبي المسيحي الرهيب.

ذات مقال؛ قال الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبرييه ما معناه: إن ثمة شيئا لا يرى في هذا الكون ولكن التاريخ الديني للبشر دل على وجود ذلك الشيء غير المرئي في مختلف اعتقاداتهم وطقوسهم وأساطيرهم!

تكمن قدرة الغيب ليس فقط في بعث الطمأنينة حيال هواجس ما وراء الطبيعة بالنسبة للبشر، بل كذلك في قدرته على جعل الفرد سعيدا بمقاييس أخرى - ليس المال منها بالضرورة - الأمر الذي يعني في فلسفته العامة إمكانية لجعل الحياة جميلةً!

محمد جميل أحمد كاتب من السودان