نحو سياسة عامة للصناعات التدويرية
بدأ الحديث عن الاقتصاد الدائري circular economy في الربع الأخير من القرن الماضي، وذلك في إطار سعي الدول والمجتمعات لمعالجة الثلوث واختلال التوازن البيئي. وكانت سويسر أول من طرح هذا الموضوع كنموذج اقتصادي يهدف إلى تقليل المهدر من الموارد والسلع والطاقة، بحيث يتم تخفيض الاستهلاك والحد من النفايات والانبعاثات المضرة بالبيئة، وقد انبثق عن ذلك التوجه ما أصبح يعرف بالصناعات التدويرية recycling industries.
وبمناسبة «اليوم العالمي للمخلفات الإلكترونية» نشرت صحيفة الإنديبندنت البريطانية على حسابها في تويتر ملخصا لدراسة أعدها علماء يحذرون من المستوى الخطير الذي وصل إليه تكاثر المخلفات في العالم. وقالت الصحيفة إن «جبالا من المخلفات الإلكترونية والبلاستيكية تتراكم سنويا في شتى بقاع العالم». وقدرت الدراسة أن حجم ذلك النوع من المخلفات سيصل في هذا العام وحده إلى أكثر من ٥٧ مليون طن، وأن ذلك الوزن يزيد على وزن سور الصين العظيم. وأشارت الدراسة إلى أن السبب الرئيس في تزايد حجم المخلفات الإلكترونية والبلاستيكية هو قصر عمر المنتجات وانتهاء صلاحيتها، سواء بالعطل أو بالتقادم. ولمحت الدراسة كذلك إلى أن المصنعين أصبحوا لا ينتجون سلعاً يمكن أن تبقى صالحة للاستعمال لمدة طويلة، وإنما يتعمدون جعل عمر السلع قصيرا، لإجبار المستهلكين على شراء منتجات جديدة لتحقيق المزيد من الأرباح. ودعت الدراسة القطاع العائلي وقطاع الأعمال والحكومات إلى التعاون من أجل تدوير تلك المخلفات وإعادة استعمالها أو تصنيعها، وذلك للحد من آثارها الخطيرة على البيئة. لكن الدراسة أشارت كذلك إلى أن كثيرا من تلك المخلفات هي في حد ذاتها موردا اقتصاديا يمكن استخدامه بتدويرها أو تصنيع منتجات أخرى منها.
لقد أصبح من الواضح أن الاختلال في التوازن البيئي يعود في جانب كبير منه إلى هيمنة النظام الرأسمالي القائم على الجشع والاستغلال المفرط للإنسان و الموارد الطبيعية و تشجيع النزعة الاستهلاكية لدى الأفراد والمجتمعات. لذلك تتزايد وتتعالى الأصوات الداعية إلى إيجاد نظام اقتصادي-اجتماعي جديد يحد من استغلال الإنسان ومن الهدر في الموارد، ويلزم المنتجين والمصنعين بتحسين جودة السلع والبضائع التي ينتجونها، لكي تسود العدالة وتستعيد البيئة توازنها. لكن ذلك كله يحتاج إلى جهد إنساني مشترك وتعاون دولي، وهو درب شاق لا يمكن لدولة واحدة أن تقوم به أو تفرضه. وما نحن بصدد الحديث عنه في هذا المقال هو أهمية استغلال النفايات و المخلفات كمورد اقتصادي، وذلك من خلال تبني سياسة عامة للتدوير الصناعي من أجل المساعدة في استعادة التوازن البيئي وتحسين استغلال الموارد.
منذ أقدم العصور يقوم الإنسان بإعادة استعمال بعض الأدوات والمنتجات التي يستهلكها. وقد فتح التطور و التقدم في الابتكار الصناعي الباب واسعا أمام إعادة استخدام كثير من المنتجات والمواد المستعملة أو التالفة لتصنيع منتجات جديدة منها. ويأتي التدوير الصناعي كأحد الأدوات التي يمكن أن تساعد في ذلك الاتجاه، رغم أنه لا يغني عن إيجاد نظام اقتصادي-اجتماعي جديد يقوم على العدل و احترام كرامة الإنسان وعلى الرشد في استخدام الموارد المتاحة في البيئة. وحيث إن إيجاد اقتصاد متنوع هو من أهم عناصر السياسة الاقتصادية للدول، فإنه يجب النظر إلى التدوير الصناعي على أنه رافد مهم من روافد التنويع الاقتصادي، إلى جانب كونه وسيلة من وسائل الحد من التلوث و إعادة التوازن إلى البيئة.
.
يمكن ربط الخبر الذي نشرته صحيفة الإنديبندنت بما صرح به في وقت سابق من هذا العام نائب الرئيس التنفيذي للشركة العمانية لخدمات البيئة، الذي قال إن ما قيمته حوالي ٤٠٠ مليون ريال عماني من المخلفات والنفايات القابلة للتدوير تصدر إلى خارج السلطنة كل عام، ودعا إلى سن تشريعات تفرض قيودا على تصدير ذلك النوع من السلع. وبما أن المخلفات والنفايات بأنواعها، سواء كانت صناعية أو زراعية أو ناتجة عن الاستهلاك العائلي والمنزلي، أصبحت موارد يمكن وصفها بأنها متجددة لكثرة ما يطرح منها يوميا، وتصل قيمتها إلى مئات الملايين من الريالات، فلا بد من وضع سياسة تحسن من استخدامها أو استغلالها لتسهم في زيادة الإنتاج الصناعي من جهة، ولتساعد في الحد من التلوث واستعادة التوازن البيئي من جهة أخرى.
وحيث أنه يتم الحديث منذ فترة الحديث عن «استراتيجية صناعية» للسلطنة، فإنه لا بد أن تشتمل تلك الاستراتيجية على السياسة الواجب اتباعها لتشجيع التدوير الصناعي. وبالإضافة إلى أن تحسين جودة المنتجات وتنويعها وإطالة عمرها الاستهلاكي يجب أن تكون من أولويات الاستراتيجية الصناعية، فإن سياسة التدوير الصناعي يجب أن تشمل الشروط الواجب توفرها للحد من تصدير المواد القابلة للتدوير، وذلك من أجل تشجيع صناعة التدوير والتوسع فيها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن كثيرا من المخلفات الصالحة للتدوير تحتاج إلى معالجات صناعية معقدة، و ذلك من أجل ضمان جودة المنتج منها وحماية صحة المستهلكين وسلامتهم. كما يجب أن تتضمن تلك السياسة الشروط الصحية اللازمة للسماح بالاستيراد من الخارج للمواد المراد تدويرها صناعيا، حيث إن بعضها قد يكون في غاية الخطورة، ومنها المخلفات التي تأتي من ساحات الحروب، بما قد تحتويه من بقايا أسلحة كيماوية أو أسلحة بها مواد مشعة تم استعمالها في مسارح القتال في بلدان مثل العراق وأفغانستان، حيث استخدمت أسلحة ثبت أنها تحتوي على مواد كيماوية أو مواد مشعة يبقى ضررها بالإنسان متوارثا جيلا بعد جيل لمئات السنين. ومع الأخذ بجانب الحذر عند السماح باستيراد المخلفات من الخارج، فإنه قد يكون من الأجدى اقتصاديا عدم السماح بتصدير بعض المخلفات والنفايات، مثل المتلاشيات المعدنية، أو ما يسمى الخردة، و كذلك زيوت الطعام والزيوت الصناعية المستعملة، وذلك لإمكانية تدويرها وإعادة استعمالها في أغراض صناعية أخرى بما يفيد في زيادة القيمة المضافة في القطاع الصناعي ويؤدي إلى خلق مزيد من فرص العمل في هذا القطاع. وحبذا لو تتضمن سياسة التدوير الصناعي كذلك اعتبار بعض الصناعات التدويرية من ضمن الأعمال الصغيرة والمتوسطة لكى يحصل المستثمرون فيها من العمانيين على بعض الحوافز للتمويل والتسويق. هذا إلى جانب تقديم إعفاءات ضريبية، أو حتى دعم نقدي مباشر، لبعض الصناعات التدويرية التي تخفف من تلوث البيئة، على اعتبار أن بقاءها دون تدوير هو أكبر ضررا وأكثر كلفة من دعم تدويرها وإعادة تصنيعها.
.
باختصار يمكن القول إنه بقدر ما فرض النظام الرأسمالي من زيادة في الاستهلاك و تسريع وتيرته فإن التقدم الصناعي أدى في المقابل إلى إيجاد موارد ومدخلات جديدة يمكن الاستفادة منها. كما أتاح تطور التقانة إمكانية تدوير المواد والأدوات المستعملة لتصنيع سلع ومنتجات مفيدة للإنسان. لذلك فإن التدوير بقدر ما يتيح إمكانية إنتاج بضائع وأدوات جديدة فإنه يفتح الباب واسعا أمام الابتكار للاستفادة من المواد و الأدوات والسلع المستعملة، بدءًا بتجميعها ونقلها، ثم فصلها وتصنيفها، ثم تصنيعها وتوزيعها للاستهلاك من جديد. لكل ذلك أصبح التدوير رافداً اقتصاديا، ويجب وضع سياسة عامة تسهل الاستثمار فيه و تدبير المدخلات الصناعية اللازمة له، سواء بجمعها من الداخل أو بالاستيراد من الخارج. إلا أن تلك السياسة يجب أن تشمل أيضاً حماية المستهلك و الحد من تدوير المواد والسلع التي تؤثر على الصحة والسلامة العامة.
* باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية