"نحن في الغابة!"
انعقدت في بانكوك عاصمة تايلند خلال الأسبوع قبل الماضي قمة "منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي"، الذي يُطلق عليه اختصارا اسم أيبَك APEC. تأسس هذا المنتدى في عام 1989 ومقر أمانته في سنغافورة، ويضم في عضويته حاليا واحدا وعشرين عضواً، ليست كلهن دولا لأن من بين الأعضاء تايوان وهونغكونغ، وهما ليستا بدولتين. وهذه مفارقة، حيث تجتمع تايوان في عضوية المنتدى مع جمهورية الصين الشعبية التي تعترف دول العالم بأنها الدولة الوحيدة في الصين، وذلك على أساس المبدأ المعروف في علاقات الصين الدولية بمبدأ "الصين الواحدة"، وكذلك يضم المنتدى في عضويته هونغكونغ المنطقة الخاضعة للسيادة الصينية.
حضر منتدى أيبَك عدد من قادة الدول، ومن بينهم إمانويل ماكرون رئيس الجمهورية الفرنسية، وهي ليست عضواً رسميا فيه. وقد ألقى الرئيس الفرنسي كلمة في المنتدى نشرتها وسائل الإعلام المختلفة، ونقتبس هنا فقرات من تلك الكلمة كما وردت، وذلك من أجل الدقة في التحليل وإبداء الرأي حول بعض ما جاء فيها.
اللافت أولاً أن الرئيس الفرنسي ألقى كلمته باللغة الانجليزية، وهو أمر غير معتاد لفرنسا التي كثيرا ما تؤكد على لغتها وثقافتها وكذلك على ما تسميه مبادئ الجمهورية الفرنسية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالعلاقة مع الثقافات الأخرى ومع الأديان. ومن أجل الحفاظ على مكانة اللغة والثقافة الفرنسية ونشرها في العالم، أنشأت فرنسا في عام 1970 منظمة الفرانكوفونية، وهي تجمع للتعاون السياسي والثقافي والاقتصادي يضم في عضويته عددا من المناطق التي تتحدث باللغة الفرنسية وأكثر الدول التي كانت مستعمرات فرنسية. لكنّ تحدث أو مخاطبة الرئيس الفرنسي للمنتدى باللغة الانجليزية وليس باللغة الفرنسية ليست موضوع هذا المقال، وإنما موضوعه بعض ما جاء في مضمون الخطاب وذلك لما له من علاقة بالعالم العربي وبما يشغل العرب عامة.
جاء في كلمة الرئيس الفرنسي في المنتدى قوله: "نحن لا نؤمن بالهيمنة والمواجهة، نؤمن بالاستقرار ونؤمن بالابتكار"، مشيرا إلى أن منطقة آسيا والمحيط الهادي تشهد تنافسا متصاعدا بين الصين وأمريكا أو بين الأخيرة وروسيا، وأنه يجب على دول المنطقة أن تعتمد على القوى الإقليمية، بما فيها فرنسا لضمان التوازن. وفي رأينا أن هذا الكلام فيه شيء من التناقض، إذ كيف لفرنسا أن تفرض نفسها كواحدة من القوى الإقليمية في منطقة آسيا والمحيط الهادي، وهي تبعد عنها آلاف الكيلومترات! بالتأكيد لم يكن لفرنسا أن تفرض نفسها كقوة إقليمية هناك لولا سطوتها وهيمنتها الدولية واستعمارها لعدد من الجزر في حوض المحيطين الهادي والهندي، مما يعني أن الكلام عن عدم الهيمنة والمواجهة كلام مجانب للصواب ومجاف للحقيقة والواقع.
لقد سقنا ما قاله الرئيس الفرنسي عن الهيمنة ونقيضها كمثال على الإشكالات والمفارقات paradoxes أو التناقضات والمآزق predicaments في السياسات الغربية تجاه الدول والشعوب والثقافات الأخرى. فهم يتكلمون عن نبذ الهيمنة والمواجهة ولكنهم يمارسونها بشتى صورها في كثير من بلاد ومناطق العالم، وليس العالم العربي وأفريقيا في الماضي والحاضر ببعيدين عن ذلك. وبالإضافة إلى موضوع الهيمنة والمواجهة، فإن في مضمون كلمة الرئيس الفرنسي مأزق آخر أكبر، حيث قال الرئيس الفرنسي حرفيا: "نحن في الغابة ولدينا فيلان كبيران في حالة توتر متزايد، وإذا زادت حدة توترهما فسيبدآن بمحاربة بعضهما، وهكذا ستكون مشكلة كبيرة لبقية العالم". وأضاف الرئيس الفرنسي في كلمته: "إننا سنحتاج إلى تعاون العديد من الحيوانات الأخرى - النمور والقرود وغيرها". نعم هي غابة، تماما كما قال الرئيس الفرنسي، والعالم أصبح محكوماً بقانون الغاب، وإن كنا نربأ بأنفسنا هنا عن وصف البشر بالفيلة والنمور والقرود كما فعل إمانويل ماكرون. واقع الحال يدل على أن الغابة اليوم هي العالم كله، وليست منطقة آسيا والمحيط الهادي فقط، بل إن هناك منطقة معينة في الغابة تخضع لممارسات أكثر وحشية وهمجية وظلماً وبؤساً من غيرها من المناطق. ذلك هو الحال في فلسطين، التي تم خلال المئة عام ونيّف الماضية تحويلها إلى غابة جيء إليها بخلق هجين من شعوب شتى ومن كل حدب وصوب، ليسلبوا ويطردوا أهلها الحقيقيين الذين يعيشون عليها وعاش أسلافهم من قبلهم على ترابها منذ آلاف السنين. ومما سجله التاريخ ويشهد به الحاضر أن الشرق والغرب تعاونا في زرع تلك الغابة ويقومان حاليا على رعايتها، كل بطريقته وحسب دوره. فمن جهة سهلت روسيا القيصرية ثم الاتحاد السوفييتي فالاتحاد الروسي هجرة أو تهجير اليهود من روسيا إلى فلسطين. ومن الجهة الأخرى قام الغرب بمختلف نظمه السياسية، ملكيات وجمهوريات، نازيين وديموقراطيين، فاشيين وليبراليين، قاموا مجتمعين ومنفردين بتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين من أوروبا ومن خارجها. ولم يقتصر الأمر على تسهيل هجرة اليهود بل تم إمدادهم بكل عناصر القوة من سلاح ومال وحماية سياسية، وذلك من أجل إبقائهم أقوياء متفوقين على جميع من حولهم، عرباً كانوا أم عجما.
الغابة التي على أرض فلسطين محكومة اليوم بالإيديولوجيا الصهيونية، التي يتسابق زعماء الغرب إلى الإعلان عن "شرف" اعتناقها، منذ وينستون تشيرشل إلى جو بايدن، ومعهما في ذلك عدد كبير من السياسيين وأصحاب النفوذ الاقتصادي والإعلامي. ومعروف ما في الإيديولوجيا الصهيونية من عنصرية وظلم وهمجية ووحشية، بل إنها هي قانون الغاب بعينه، كما هو واضح من ممارساتها في فلسطين وما حولها. وفي هذا الصدد نذكّر بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3397 الذي صدر في عام 1975 ونص على أن "الصهيونية شكل من أشكال التمييز العنصري". لقد صدر ذلك القرار حين كان في العالم شيء من التوازن، لكن للأسف ألغت الأمم المتحدة قرارها مجاناً بعد عدة سنوات من صدوره، وكان إلغاؤه في فترة استغفال للعالم العربي، في إطار ما سمي بعملية السلام في الشرق الأوسط، وفي مرحلة انزلق فيها العالم كله ليقع تحت هيمنة قطب واحد، وهو وضع استفادت منه الصهيونية في التنصل مما يعرف بقرارات الشرعية الدولية.
لا يحتاج عاقل أو محايد ذو لبّ وبصيرة، إلى جهد كبير لمعرفة أن في فلسطين غابة محكومة بقانون الغاب، فالقتل والتشريد فيها مستمر منذ أكثر من مئة عام، وهو يتزايد بشكل يومي. ولا يميز القتلة هناك بين ممتشق لسلاح أو حامل لغصن زيتون، ولا بين صبي أو كهل، ولا بين رجل أو امرأة، بل حتى الأطفال والمعاقين لم يسلموا من القتل المتعمد. وفي ظل قانون الغاب أصبح قتل الفلسطيني مبررا بمجرد الشك في نيته، وربما من دون حاجة إلى الشك، كما حدث مع الصحفية شيرين أبو عاقلة، وكذلك مع الطفلة فُلّة المسالمة، التي تعاني من مرض التوحد وقتلت قبل بضعة أيام، وهي تستعد للاحتفال بعيد ميلادها. في فلسطين كذلك تهدم بيوت أمام أعين ساكنيها، وتقتلع أشجار أمام أصحابها، وتصادر أراض رغما عن ملاكها، وتقام أسوار تفصل الناس عن بعضهم وعن مصالحهم وأملاكهم، وتنتشر نقاط تفتيش مهمتها إذلال العابرين من خلالها. كل ذلك والعالم غير مكترث لأننا "نحن في الغابة"!.. فإلى متى يا فخامة الرئيس ماكرون ستبقى الغابة في فلسطين موحشة؟! وحتى متى سيبقى من جيء بهم إلى الغابة متوحشون، لكنهم محميين بقانون الغاب بينما ضحاياهم منسيين ؟!
تعليق إضافي على كلمة الرئيس الفرنسي، ولكن على الهامش... يبدو أن الساسة الأوروبيين قد تشابه عليهم البشر والحيوان، فقبل أسابيع من إلقاء الرئيس الفرنسي كلمته في منتدى أيبَك، قال جوزيب بوريل المفوض السامي للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، إن أوروبا حديقة والعالم من حولها غابة، ويحاول من في الغابة اقتحام الحديقة، وعلى أهل الحديقة الذهاب إلى الغابة حتى لا يأتي أهلها إلى الحديقة.
• د. عبدالملك بن عبدالله الهُنائي باحث في الاقتصاد السياسي و قضايا التنمية