موقع الثقافة في العمل العربي المشترك
بحكم مسؤولياتي في العمل الثقافي منذ أكثر من عشرين عامًا عشت الكثير من مشروعات العمل العربي المشترك في مجال الثقافة. وأستطيع بعد هذه السنوات أن أقدم شهادتي بتجرد وحيادية، سواء على مستوى جامعة الدول العربية أو المنظمات المنبثقة عنها مثل «الألسكو» أو منظمة المؤتمر الإسلامي «الأسسكو» وقد أتيح لي أن أحضر العديد من المؤتمرات الثقافية في الدول العربية والإسلامية، وفي كل اجتماع كان الموضوع الرئيس هو الثقافة سواء العربية أو الإسلامية، التي كانت تُعقد من أجلها الاجتماعات التي لا تتخلف عنها غالبا أي دولة، سواء على المستوى العربي أو الإسلامي.
كانت اجتماعات منظمة المؤتمر الإسلامي تعقد بشكل منتظم في إحدى العواصم الإسلامية بينما كانت اجتماعات وزراء الثقافة العرب تعقد في دورات غير منتظمة في إحدى العواصم العربية يحضرها وزراء الثقافة العرب، حيث يلتقي فيها الوزراء على هامش المؤتمر، يتحدثون في أمور عامة وغالبًا ما يتحدثون في كل شيء ما عدا السياسة والثقافة، وكانت تتسم هذه اللقاءات بقدر كبير من التحفظ الشديد ولا يتمخض عنها غالبا أي نتائج إيجابية تتعلق بقضية الثقافة.
القضية التي من أجلها كان الوزراء يجتمعون ويعقدون جلساتهم الرسمية كانت في الغالب مسألة ثانوية يحرص الكثير من الوزراء على الحديث وإجراء مداخلات وكانت الاجتماعات تُعقد على مدار يومين صباحا ومساء كنت أحرص دائما على أن أكتب ملاحظاتي على كلمات المتحدثين ثم أقوم في نهاية كل يوم بتحليل مضمون ما قاله الوزراء أو المسؤولين، وكنت أصل إلى نتيجة أن كل ما يقال لا يحمل مضمونا متسقا ولا فكرة مترابطة ولا مشروعا يمكن أن يتحقق على أرض الواقع، بل كانت القضية في مجملها مجرد أحاديث، الهدف منها هو الإعلام والبث التلفزيوني وأخبار تتناقلها الصحف وتخصص الجلسة الأخيرة لإعلان بيان يحرره بعض مساعدي الوزراء، يشيد بما تحقق في هذه الاجتماعات، خاليا من أي خطة أو مشروع قابل للتطبيق، وبمجرد أن ينفضّ الاجتماع يحرص الوزراء على التقاط صورة جماعية تتصدر صفحات الصحف ووسائل الإعلام.
كل الاجتماعات التي حضرتها -وزيرا أو مسؤولا- عن الثقافة في مصر كنت أشعر بقدر كبير من الإحباط، فكيف لأمة يجمعها التاريخ المشترك والمصالح المشتركة والثقافة العربية بلغتها وحضارتها أن تكون قضية الثقافة في الدرك الأسفل من اهتماماتها وفي كل مرة كنت ألتقي مع عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية كنت ألح عليه في العناية بالثقافة، فهي القضية الأعظم التي تجمع كل الشعوب العربية وغالبا ما كنت أتساءل: ألا تستحق الثقافة اجتماعا على مستوى القمة العربية يكون موضوعه الرئيس هو الثقافة؟.
في عام 2005 تلقيت اتصالا تليفونيا من أحد مساعدي أمين عام الجامعة العربية يدعوني إلى اجتماع يترأسه عمرو موسى عن الثقافة، لا أتذكر تحديدًا تاريخ هذا الاجتماع الذي كان يضم بعض الشخصيات الثقافية من مصر وخارجها، وفي أول اجتماع راح عمرو موسى يتحدث عن أهمية الثقافة في ظلّ ما يحدث للعالم العربي من كوارث وأضاف قائلًا: لقد أخذنا موافقة الدول العربية على عقد قمة عربية على مستوى الملوك والرؤساء تخصص للثقافة العربية ومستقبلها أدبا وتاريخا وفنًا وفكرا. وعلى حد تعبيره: الثقافة هي طوق النجاة لخروج العرب من كل هذه الكوارث، لعل الثقافة تُصلح ما أفسدته السياسة. وطلب من بعضنا إعداد أوراق عمل تتناول كل القضايا التي تستحق المناقشة مع الابتعاد عن القضايا الخلافية والمذهبية والسياسية. من أجل هذا الهدف النبيل كتبت وغيري أوراقا تم مناقشتها في اجتماعات لاحقة لكنني كنت ألاحظ على الأمين العام في الاجتماعات التالية فتورًا بأهمية القضية، وقد وعدنا بأنه سيتقدم بمشروع متكامل يجمع كل هذه الأوراق في تقرير يُعرض في الاجتماع الذي يخصص للثقافة واتفقنا على أن يكون الموضوع تحت عنوان «مستقبل الثقافة العربية» وهو الأمل الذي لم يتحقق وظلت القضية معلقة حتى يناير2011.
ما حدث في العالم العربي بعدها من انتفاضات وهبات غضب أوشكت أن تعم كل الأقطار العربية، وما تزال بعض نتائجها واضحة على بعض الدول العربية التي أصبح مستقبلها مهددا بالخطر ونجم عن ذلك ضياع أوطان كانت مستقرة، وقد انعكست الصراعات العربية العربية على هذه الأوطان التي حدثت فيها حروب أهلية دمرت اقتصادها وقتلت مئات الآلاف من أبنائها وما زلنا نتحدث عن جامعة الدول العربية التي لم يبق منها إلا بناية على نيل القاهرة.
تحضرني تجارب كثيرة عن العمل العربي في مجال الثقافة وهي تجارب صغيرة لكنها كانت مبشرة بعيدا عن المنظمات العربية الرسمية، ففي عام 2007 كنت رئيسا لدار الكتب والوثائق القومية حينما اتفقت بعض المؤسسات العربية وبمبادرة من مكتبة الإسكندرية على عمل بوابة رقمية تُمثل فيها كل الدول العربية على مستوى المؤسسات الثقافية، على أن تقدم هذه المؤسسات بعض ما لديها من مقتنيات ثقافية في مجال الفن والأدب والسينما، وكنّا قد قطعنا شوطا كبيرا في هذا المشروع وأجرينا له افتتاحات تجريبية في القاهرة والمغرب والشارقة والبحرين ودول عربية أخرى ثم توقف المشروع لأسباب تتعلق بتغيير الأشخاص المسؤولين عن الثقافة في كثير من الدول العربية.
في عام 2003 أنشأنا كيانًا ثقافيا «النادي العربي للمعلومات» بهدف زيادة المحتوى العربي على شبكة الإنترنت الذي لم يكن يتجاوز 3% من المحتوى الرقمي العالمي ثم جاءت أحداث يناير 2011 التي أنهت المشروع وخصوصا وقد كان المنسق العام له هو الدكتور عبد المجيد الرفاعي «سوريا» وهو مشروع كان يحظى بدعم كبير وقد اتخذنا من سوريا مقرًا له وقد انتهى المشروع بدخول سوريا في متاهات لا يعلم نهايتها إلا الله.
اعترف أننا مقصرون في خدمة ثقافتنا ففي مجال الترجمة حينما تقوم كل مؤسسة عربية على انفراد بترجمة بعض الأعمال الأدبية والفكرية من مختلف الثقافات الأجنبية وهي قضية تستوجب التنسيق حتى لا تتكرر ترجمة أعمال تم ترجمتها في قُطر عربي آخر، أمّا عن الترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية فالأمر يثير الألم رغم أن لدينا أعمالًا عربية كثيرة جديرة بالترجمة إلى مختلف لغات العالم الذي لا يعرف شيئًا عن ثقافتنا وإبداعاتنا في المجال الأدبي والفكري والفني، والسؤال المهم الذي يستحق العناية: ألم يحن الوقت بعد لكي نضع الثقافة العربية في مقدمة اهتماماتنا. هو سؤال أقدمة إلى كل الجهات المعنية بالثقافة في كل أقطارنا العربية.