مواصفات ومعايير السلامة الغذائية تنقذ الحياة
هل سألتم أنفسكم يوما كيف يُقبل المستهلك على منتجات غذائية، وهو لا علم له بماهية ممارسات الجودة والسلامة في إنتاج ومعالجة وتعبئة وتداول وتوزيع هذا المنتج حتى وصوله إلى منافذ البيع، الإجابة في كلمةٍ واحدة وهي: «الثقة»، سواءً تم تصنيع الغذاء محليا، أو في الطرف الآخر من العالم، فإن ممارسات الجودة والسلامة تحكمها مواصفات ومعايير معتمدة، وهي حجر الأساس لترسيخ هذه الثقة، ولأجل هذا الدور المهم الذي تمثله المواصفات والمعايير الغذائية في ضمان مأمونية الغذاء، وحماية صحة المستهلك، تم تخصيص شعار اليوم العالمي لسلامة الغذاء هذا العام لتكريم خط الدفاع الأول في الرقابة الغذائية.
في البدء ما هي «سلامة الغذاء» في أبسط معانيها؟ هذا المصطلح يشير في الإجمال إلى الغياب الكلي، أو وجود مستويات آمنة ومقبولة من المخاطر التي قد تنشأ في أي مرحلة من مراحل السلسلة الغذائية، والتي تتسبب في إحداث آثار سلبية على صحة المستهلك، بدءا بحساسية الغذاء وانتهاءً بفقدان الحياة، وتوفر معايير سلامة وجودة الغذاء الأساس المشترك لجميع الفاعلين والشركاء في منظومات الغذاء الوطنية، وتسعى هيئات الرقابة على الجودة والسلامة لضمان تلبية معايير الغذاء الآمن من خلال تطبيق المبادئ التوجيهية، ومدونات الممارسات على طول سلسلة الإمداد الغذائي، وعلى المستوى المرجعي الدولي تتصدر معايير سلامة الأغذية الدولية من هيئة دستور الغذاء العالمي (الكودكس أليمنتاريوس)، الذي يحتفي هذا العام بمرور (60) عاما من تأسيسه، وتستند هذه المعايير إلى الأدلة العلمية، والمعرفة التقنية التي تنتجها هيئات دولية مستقلة ومتخصصة في تقييم المخاطر الغذائية، بالإضافة إلى مخرجات المشاورات العلمية التي تنظمها وبشكل دوري كل من منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، ومنظمة الصحة العالمي (WHO)، ومعايير الدستور الغذائي والنصوص هي في الأساس توصيات ودلائل استرشادية للتطبيق الطوعي، إلا إنها تستخدم في الكثير من دول العالم كأساس لسنِّ قوانين الغذاء، وغيرها من المواصفات والمقاييس والتشريعات الوطنية.
وهذا يقودنا للسؤال المحوري: لماذا اقترحت هيئة دستور الغذائي العالمي تخصيص يوم عالمي لسلامة الغذاء أثناء مناقشات الجمعية العمومية للأمم المتحدة في ديسمبر من عام 2018م؟ يأتي يوم الغذاء العالمي كإضافة نوعية ذات أبعاد استراتيجية عميقة لاقتصاد الغذاء، حيث مارست البشرية منذ القدم التبادل التجاري للغذاء، ولكن التقدم التكنولوجي والعولمة زادت من سهولة تداول المواد الغذائية، وبذلك زاد طول سلسلة الإمداد بوتيرة تصاعدية، مما ضاعف من تداخل أدوار الجهات المعنية في مختلف مواقع سلسة الغذاء، وبالتالي تضاعفت نقاط المخاطر المحتملة والحرجة، وهذا يستوجب وضع الضوابط الحاكمة لمنع حدوث هذه المخاطر في المقام الأول، واكتشافها بشكل استباقي إن حدثت، والتخفيف من حدتها طوال فترة المعالجة والاحتواء، بإعادة توجيه التركيز الاستراتيجي نحو الامتثال لمتطلبات الجودة والسلامة الغذائية على نحوٍ مستدام، وتعزيز التعاون والتآزر عبر القطاعات الإنتاجية، والتكفل برفع وعي المستهلكين.
تاريخياً، اعتمدت اللجنة العمومية للأمم المتحدة مقترح اليوم العالمي لسلامة الغذاء في عام 2018م، وتم تحديده ليكون السابع من شهر يونيو، وفي العام التالي أُقيم أول احتفالٍ بهذا اليوم خلال مؤتمر أديس أبابا التحضيري لمنتدى جنيف للغذاء الذي عُقد في عام 2019م، وناقش لأول مرة إطار مستقبل سلامة الغذاء العالمي، كان الشعار الرسمي للاحتفاء الأول هو «سلامة الأغذية: عمل الجميع»، وفي عام 2020م ومع زيادة وطأة جائحة كورونا، وارتفاع مخاطر انعدام الأمن الغذائي، قررت المنظمتان الدوليتان الفاو والصحة العالمية استمرار العمل بالشعار الرسمي ذاته، وذلك اعترافاً بأهمية التكامل بين جميع شركاء سلامة الغذاء، وجاء الاحتفاء الثالث في عام 2021 تحت شعار «الغذاء الآمن اليوم من أجل غدٍ صحي»، أما موضوع عام 2022م لمحور الصحة العامة، حيث نص الشعار الرسمي كالتالي: «غذاء أكثر أمانًا، صحة أفضل».
وفي السابع من شهر مارس المنصرم، تم الكشف رسمياً عن موضوع اليوم العالمي لسلامة الأغذية لعام 2023، والذي يحمل شعار «معايير الغذاء تنقذ الحياة»، وذلك اعترافاً دولياً وأممياً بأهمية مواصفات ومعايير الغذاء في الحفاظ على صحة وسلامة المستهلك، وتم نشر دليل فعاليات هذا الحدث العالمي الذي يجري اليوم داخل أروقة منظمات الأمم المتحدة المعنية بالغذاء والصحة والتجارة، كما سيتم بث الرسائل الاتصالية الرئيسية لموضوع هذا العام، وذلك من أجل رفع الوعي، وإلهام العمل المشترك، والمسؤولية المتبادلة في ملف الغذاء، على مستوى حكومات ودول العالم، وكذلك الهيئات والمنظمات، والعلماء والباحثين، وصناع السياسات والممارسين، والمستثمرين في اقتصاد الغذاء، فسلامة الغذاء يعد عنصرًا حاسمًا للأمن الغذائي الوطني والإقليمي، إذ لا يوجد أمن غذائي بدون سلامة الغذاء، والمعايير والمواصفات المرجعية هي مفتاح الإدارة السليمة لسلامة الغذاء، وهذه المعايير لا تأتي من فراغ فهي نتاج الجهود العلمية والفكرية والبحثية والابتكارية.
وعلى الرغم من أن موضوعات وشعارات الأيام الدولية الأربعة الماضية كانت رسمية وعلمية، إلا أن شعار هذا العام اتسم بلهجة عاطفية، إذ نص الشعار على أن معايير الغذاء هي بمثابة طوق النجاة أمام المخاطر الصحية المرتبطة بالغذاء غير الآمن، وهذه حقيقة واقعية تثبتها الأرقام والإحصاءات، إذ تشكل الأمراض المنقولة عبر الغذاء والمرتبطة بالتلوث الجرثومي والكيميائي والفيزيائي تهديداً صحياً خطيراً على جميع المستهلكين، وبشكل أكثر تعقيدا على الفئات الحساسة مثل الأطفال، وكبار السن، وأصحاب الاعتلالات الصحية المزمنة، إذ تم رصد 200 نوع مختلف من الأمراض المنقولة بالغذاء، وبلغ عدد المصابين بهذه الأمراض (600) مليون شخص حول العالم، ومعظم حالات الوفاة الناجمة عن التعقيدات الصحية لهذه الأمراض يمكن الوقاية منها كل عام، وبذلك فإن عبء المراضة يعد أكبر استنزافٍ للثروات الوطنية بسبب ازدياد نفقات الرعاية الصحية، إذ كان بالإمكان توجيه هذه الموارد لدعم الخطط التنموية ذات الأولوية، وحسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية لعام 2021م، بلغ متوسط التكلفة السنوية التقديرية لعبء المراضة حوالي (77.7) مليار دولار أمريكي، لكن التكلفة الفعلية قد تكون أعلى من ذلك.
وبقراءة متأنية في التاريخ التراجيدي لمشكلات تدهور سلامة الغذاء، نجدها ذات بحساسية عالية، إذ يمكن أن يتحول أي تحدٍ محلي إلى حالات طوارئ دولية، بسبب سرعة تداول وتوزيع المنتجات بين الدول، وهناك أمثلة مشهورة هزت الأوساط العلمية والصناعية، ففي عام2011، ارتبط تفشي الإشريكية القولونية المعوية النزفية (E. coli) في ألمانيا باستهلاك براعم الحلبة الملوثة، التي تدخل في وصفات كثيرة، وتستهلك على نطاق واسع، وخلال وقتٍ قصير من تفشي الوباء الجرثومي في ألمانيا، تم الإبلاغ عن حالات مشابهة في (8) دول في أوروبا وأمريكا الشمالية، وأدت إلى وفاة (53) شخصاً، وتسببت في خسائر بقيمة (1.3) مليار دولار أمريكي للمزارعين، ومختلف منتسبي سلسلة القيمة والإمداد، وهناك مثال آخر لا يقل شهرة، وهو تلوث حليب الرُضع بمادة الميلامين السامة في عام 2008م، والذي أدى إلى إصابة (300.000) طفلٍ رضيع، نُقل منهم (51.900) طفل إلى المستشفى للعناية الحرجة، وتوفي (6) أطفال، بالإضافة إلى حدوث حالات الفشل الكلوي، واحتمالات وجود مضاعفات مستقبلية غير مستحبة.
إن الاحتفاء باليوم العالمي لسلامة الغذاء ليس نوعاً من الترف العلمي، ولكنها نقطة مراجعة لإعطاء الأولوية لسلامة الأغذية في الأجندات الوطنية، مع دعم نظم الإمداد الآمن للغذاء بشتى أبعادها، فالمواصفات والمعايير لوحدها لا تعدو كونها لوائح نظرية إذا لم تعززها النتاجات العلمية والابتكارات التكنولوجية لرفع دقة تتبع وسرعة اكتشاف الملوثات والمخاطر الغذائية من جهة، ومن جهةٍ أخرى وضع الخطط الاستباقية للتعامل مع أوبئة الغذاء بنهج تشاركي، فاتساع النطاق العالمي لسلاسل الإمداد الغذائي جعل من سلامة وجودة الغذاء قضية مجتمعية قبل أن تكون مسألة علمية، وأصبح لزاماً احتواء المخاوف العامة بشأن قضايا وتحديات الغذاء بتوفير المزيد من التوعية، وتضمين المستهلكين من منظور ثلاثي من الشراكة والتعاون والحوار.