مواثيق الشرف.. هل تتجاوز التنظير؟
يسعى الناس من خلال تطبيق مواثيق الشرف إلى الحفاظ على مجموعة من الكينونات، أو الكيانات، وأغلبها، اجتماعية، وإن تداخلت معها بعض المهن في العصر الحديث، مع أن حقيقة هذه المواثيق هي معنوية بالدرجة الأساس، يقرها الأفراد مع أنفسهم كالتزامات معنوية، أكثر منها مادية، ويأتي الجانب التنظيري فيها للاحتكام من خلاله على مجموعات الانفلاتات، أو التشوهات التي تحكم هذه العلاقة، بين مختلف الأطراف، ولأن أغلبها معنوي، فهي قابلة لتحطيم مبادئها من قبل هؤلاء الناس أنفسهم، وما مجموعة الانتهاكات السلوكية التي تحدث من قبلهم إلا دليل على أن الالتزام بها معنوي، إلا إذا تبين أن هناك طرف متضرر من ضغوط مورست عليه، فهنا يمكن أن تتجسد في صورة قضية تعرض أمام المحاكم، فإشكالية مواثيق الشرف أنها ليست بإلزامية القانون، فهي أقرب إلى الالتزام الشرفي منه إلى الالتزام القانوني الصارم.
يلعب البعد الاجتماعي في مسألة مواثيق الشرف -كمفهوم أخلاقي- دورا ضمنيا في تفعيلها في نقاط التلاقي والاختلاف حول الاحتكام على سلوكيات معينة، إن كانت تتفق هذه السلوكيات وأعراف المجتمع، أو تتصادم معه، ومعنى ذلك، أيضا، أن مجمل مواثيق الشرف الموضوعة، سواء الشأن المهني، كميثاق الشرف الطبي، أو في الشأن الثقافي، كميثاق الشرف الصحفي أو الإعلامي، أو في أي شأن من شؤون الحياة العامة، اتفق مجموعة الفاعلين فيه على ضرورة وضع مواثيق شرف له، يظل مرده إلى بعده الاجتماعي، وذلك لسبب واضح، وهو قياسه على السلوك، وعلى الأخلاق، وعلى القيم (ما تذهب إليه مجموعة العادات والتقاليد) حتى وإن وضعت في إطارها المهني المتخصص، فهي في كل أحوالها تخاطب هذا الإنسان في أمانته، وصدقه، وإخلاصه، وبالتالي متى سل هذا الإنسان نفسه من أي التزام تفرضه عليه هذه المواثيق، أحدث مثلبة في جدار هذه القيم، ولذلك فالمواثيق تحتاج إلى كم كبير من القناعات للإيمان بها، وبأهميتها في حفظ الحقوق، وفي التعبير عن صدق التوجه عند أي طرف من أطراف العلاقة في أمر ما، ومع ذلك تمنح مواثيق الشرف الناس مسارا آمنا للحفاظ على كثير مما يراه هؤلاء الناس أنفسهم أن هذا الأمر أو ذاك يأخذ درجة من الحساسية، مع أن مفهوم الحساسية ذاته مفهوما مطاطا، قابلا للتنظير فيه، وقابلا أيضا لإقحامه فيما يعني وفيما لا يعني، لأنه خاضع لمقاييس كثيرة، فما يراه فرد أو مجموعة من الناس على أن هذا الموضوع حساس، يراه آخرون غير ذلك تماما، أو على أقل تقدير، ينظر إليه على أنه مهم، ويجب تقديره، ولكنه لا يمكن إسقاطه على أي درجة من درجات الحساسية، وهذا التفاوت في التقييم، يعود إلى عوامل كثيرة، أغلبها، ثقافية بحتة، لأنها لا تخرج عن قيم المجتمع، وتصنيفاته المختلفة.
يحتكم الناس إلى النزاهة والشرف فيما تذهب إليه هذه المواثيق على تعددها، وهاتان الصورتان قابلتان للتماثل وللتوظيف الرفيع، وقابلتان للاعتماد عليهما في منح سلوك ما يقوم به إنسان ما كغطاء أخلاقي يُحَيِّده عن السقوط في مستنقع التقييمات القاسية، من قبل الآخرين، فيقال هذا إنسان نزيه وشريف، ولا يمكن أن يرتكب هذا الفعل المشين، وكلا المفهومين هما صورتان ذهنيتان، تنزلها القيم الاجتماعية هذه المنزلة المهمة في حياة أفراد المجتمع لصون الاعتبارات الاجتماعية أكثر من أنها إنسانية، لأن الجماعة قد تتفق على تبرئة فرد من أفرادها لمكانته الاجتماعية، وتنزل حكمها القاسي على فرد من ذات المجموعة، ولكنه أقل شأنا اجتماعيا، وهذه من المثالب المحسوبة على التذبذبات السلوكية التي يبديها أفراد المجتمع بين خطأ وصواب، فالأشراف والمقامات مستويات اجتماعية، توجدها الجماعة الراشدة -والرشد المقصود به هنا، هو مجموعة القيم التي يؤمن بها أفراد هذه الجماعة دون غيرهم- لإيجاد نوعا من الأسيجة التي تمنحها شيئا من الحماية عن الابتذال أو السقوط في مستنقعات التقييمات الوضيعة، ومن هذه السياجات أيضا هي مواثيق الشرف، التي تنظر إليها هذه الجماعة بأهمية كبيرة للاحتكام بها عندما يكون هناك تجاوزات مخلة لممارسة أي سلوك شاذ، حيث تقاس السلوكيات على مواثيق الشرف القائمة بين أفراد الجماعات الراشدة، وبالتالي فالخروج عنها يعد انتزاعا للطهر من بين حواشي المجتمع، وهذا بالطبع يتصادم مع العدالة الحقيقية ولنا صادق العبرة والمثل في قصة المخزومية التي سرقت عندما انتفض المجتمع ليس لقسوة الحكم فقط، ولكن لمكانة أسرة المرأة في ذلك المجتمع، وجاء الرد الصادم: "أتشفع في حد من حدود الله ..." والقصة معروفة، بينما في ذلك المجتمع أو غيره هناك مواثيق شرف، فتم تجاوزها، أليس كذلك؟!
ومسألة الالتزام الأدبي المحض بالمواثيق لا يكفي إطلاقا، ومعنى هذا أن هذه المواثيق تحتاج إلى حاضنة، أو راع يتابع سير تفعيلها على أرض الواقع، ومدى التزام المعنيين بها، وهذا شأن كل القيم الاجتماعية، ولذلك، فهذه المواثيق ترتكن كثيرا على البعد الاجتماعي في التطبيق، وإلا أحيل تطبيقها إلى الالتزام القانوني الصارم، ويبدو من واقع المشاهدة والمتابعة أن كل المواثيق، بما فيها الاجتماعية، لا يتم الإيمان بأهميتها إلا من خلال المسار القانوني، إلا في الحالات النادرة والاستثنائية، وهذا أمر حاصل في كل ممارسات الإنسان اليومية، حيث يدخل الاستثناء كوميض أمل أن الإنسانية لا تزال حاضرة بيننا مهما كانت مجموعة التجاذبات النفسية ضاغطة بقوة الرغبات والشهوات، والأطماع، وهذه كلها من الفطرة المركبة فينا كبشر، ولذلك تأتي أهمية الراعي أو الحاضنة لغرس قيم هذا الالتزام عند الفرد على وجه الخصوص، قبل الوصول إلى المجموع.
يقول أبو الطيب المتنبي: "لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى، حتى يراق على جوانبه الدم" فالشرف هنا، إما أن يحمل على معنى العلو والسمو، والمنزلة الرفيعة، وإما أن يحمل معنى العرض، وهو كل ما يمس الإنسان في أهله أو أحد من أسرته بشائنة معيبة، وفي مقدمتها الانتهاكات الجنسية، وهي الأشد إيلاما على النفس في حالة تعرضها لذلك، وعندما يكون الشرف بهذا المعنى فإنه يكتسب حساسية مفرطة، وغير طبيعية، ولذلك جاء في الحديث: "... ومن قتل دون أهله فهو شهيد" وهناك من يسقطون أنفسهم في هذا المستنقع عندما يؤمنون بأهمية أن تكون هناك مواثيق شرف في البعد الاجتماعي، ومع ذلك يتجاوزونها عندما يكونون في حالة "مع سبق الإصرار والترصد" في انتهاك شرف الآخرين، والإضرار بقدسية العلاقات القائمة بين أبناء المجتمع لمجرد نزوات عابرة، لا تلبث أن تكون وبالا على صاحبها، ويقينا، سيدفع ثمنها عاجلا أو آجلا، وعند هذه النقطة بالذات يختزل هذا الشرف الرفيع في إخفاقات المرأة، ويظل الرجل مصانا بأعراف المجتمع، فلماذا لا يكون الرجل هو المبرر المفقود في هذه الحلقة في امتثاله في المحافظة على هذا الشرف الرفيع؟ هل لأن هو الذي وضع مواثيق الشرف الاجتماعي، وبالتالي هو يكيفه امتثالا لرغباته وشهواته؟ إذن في هذه الحالة: لن يسلم الشرف الرفيع من الأذى، حتى ولو أريق على جوانبه الدم! حيث تبدو المسألة بهذه الصورة المترهلة في تجسيد الشرف أن من يحدد هذا الشرف، ومن يهدر كرامته هو الرجل، ولو أقسم به بالأيمان المغلظة، كما يحدث كثيرا، والمفترض أن لا تستقطع المفاهيم، وإنما تؤخذ بحمولتها الاجتماعية والمهنية، حتى ولو تصادمت مع الرغبات الخاصة، وهي يقينا تصطدم مع الرغبات الخاصة، وفي كل الأحوال فإن مواثيق الشرف في أبعادها الاجتماعية والمهنية تبدأ بإطار تنظيري واضح يوافق عليها الجميع، ويعتمدوها، لأن في هذا الاعتماد ما يرسخ الإيمان بأهمية التطبيق، والتنفيذ، وكلا المرحلتين مهمتين.
* أحمد الفلاحي كاتب عماني مهتم بالقضايا الاجتماعية