منطق وعاطفة .. ثمة علاقة تضادية
كثيرا ما نسمع مقولة: «هذا هو المنطق» إذن معنى هذا أن المنطق هو الحكم المقبول من قبل الجميع إلى حد ما، أو على الأقل يحقق نوعا من الرضا لدى مجموعة كبيرة في الوسط الذي يناقش فيه أمر ما من أمور الحياة، فـ«رضا الناس غاية لا تدرك» كما هي الحقيقة المعروفة، ومعنى ذلك أيضا أن المنطق يصل الحكم فيه إلى القطع أو الفصل؛ حتى وإن خالف هوى البعض، لأن «هذا هو المنطق» والناس؛ عموما؛ عندما يُواجَهُون بالمنطق تقف حجتهم عند ذات النقطة، ولا يجادلون كثيرا، حتى لا يسقطوا أنفسهم في مطب الجدل السفسطائي «العقيم» فالمنطق هو سد منيع عن الترهل في الاسترسال فيما لا فائدة منه، ولا نتيجة جيدة ترتجى من خلاله، وبذا يلعب مفهوم المنطق؛ في حالة استيعابه؛ دورا محوريا في بلورة الحقائق، والنظم، والأفكار، والذهاب بها نحو ما يجب أن تكون عليه مسارات الحياة المختلفة، فهو إلى المثالية؛ منه أقرب، والمنطق بهذا المفهوم؛ يفترض؛ أن يقبله الجميع، ويكون موضع تقدير لديهم، ولا يجب أن يكون موضع خوف، أو توجس؛ إلا من قبل من يؤمنون أن الحقائق المنطقية هي نسبية القبول، بمعنى إن كان فلان من الناس يرى أن أمرا ما يعد منطقيا في نظره، ففلان آخر من الناس لا يراه كذلك، وهذا مما يفتح مشاريع، وأبوابا كثيرة للنقاش، ولأن الأمور المنطقية لا تحتاج إلى نقاش، لأن المنطق يصل بها إلى الأحكام المطلقة كالعبادات؛ على سبيل المثال؛ فهي؛ ولأنها من أوامر من لدن رب العزة والجلال جاءت بها الكتب السماوية على لسان رسل الله «عليهم الصلاة والسلام» لا تقبل النقاش، فهي منطقية بالضرورة لأنها من عند الله، بمعنى أن فتح النقاش بها هو الوقوع في مطب النقاش السفسطائي المشار إليه أعلاه، أو الوقوع في تباينات الفكر المُتَخَوِّفُ منها دائما، وبمعنى آخر أيضا؛ أن الأمور التي تقبل النقاش، أو هي خاضعة للنقاش فهي أمور لم تصل إلى مستوى المنطق، أي نسبية النشأة، ونسبية التأثير، ونسبية القبول من قبل الآخرين، وبالتالي فمن حق هؤلاء الآخرين أن يبحثوا فيها، فيجردوها من مجموعة الترهلات حتى تصل إلى المستوى الرفيع، وهو المنطق، ولو أن أعمال البشر وأنشطتهم ليس من السهولة بمكان الوصول بها إلى مستوى المنطق، لتجدد الأفكار، والرؤى، والأدوات بين كل عصر وآخر، إلا أن ما يصل إلى مستوى المعقول، ولا يثير شبهة ما، فهو يكون الأقرب إلى المنطق منه إلى ما دون ذلك.
ومن خلال حيادية الصورة أعلاه يمكن النظر إلى الركن الآخر الموازي؛ وليس المكافئ، إطلاقا؛ وهي العاطفة، وهي الحاضة دائما لكثير من النقاش، والأخذ والعطاء، فهي نتاج النفس المتغيرة، والنفس المتسلطة، والنفس الضعيفة، والنفس المترددة، والنفس المتعطشة، والنفس المرعوبة، وقليل من النفس المطمئنة، ومعنى هذا أيضا؛ أن العلاقة ما بين المنطق والعاطفة علاقة تضادية، ففي الوقت الذي يقف فيه المنطق عند نقطة معينة لا يقبل فيها الأخذ والرد لتجريدية المعنى من الشوائب؛ حيث الحكم الفصل؛ تأتي العاطفة لتثير جدلا غير منتهٍ، وتفتح حوارات غير مكتملة المعنى، وتقف عند مسائل نسبية القبول، ونسبية الأحكام، ونسبية النتائج النهائية، وإذا كان المنطق يقف مزهوا بما أنجزه من أحكام الفصل والقطع في مختلف الأمور، تأتي العاطفة لتفتح نقاشات غير منطقية، حيث تكون خساراتها كثيرة وكبيرة، وتكون النتيجة قول من قائل: «هذا جدل لا فائدة منه، ولا يجب أن يستمر؛ حيث ضياع الجهد والوقت» وباختصار «كلام عاطفي» لا يستند على منطق، أو حجة بالغة.
عندما يطل الإنسان برأسه من إحدى نوافذ الحياة، ربما ينظر من خلالها إلى أن هناك اتساع الأفق، فيوجد فيه هذا الشعور الشجاعة لأن يتجاوز الحدود المنطقية، حيث الدين، والقوانين، والأعراف، والقيم، ومجموعة التعاقدات الاجتماعية التي تنظم حياة الناس؛ انطلاقا من معززات عواطفه الإنسانية؛ قبل أن يوزن تجاوزه بميزان العقل، ولذلك يصطدم بأشياء غير دائرة في خلده من قبل، وهذا غالبا ما يحدث عند فئات السن الصغيرة؛ قليلي التجربة الحياتية، فتحدث عنده ردة فعل؛ قد تكون عنيفة في بعض الأحيان، فتلبسه حالة من اليأس والقنوط، ولعن كل ما حوله، وكأنه الوحيد في هذه الحياة، وكأن كل ما حوله يقف ضده، حيث يقيس مجموعة المصدات التي أمامه على حالته الفردية فقط، دون اعتبار للمجموعة التي يعيش بينها، ولكن مع مرور الأيام، واستلهام الكثير من التجارب تبدأ بعض القناعات تترسخ، فتصوب مساراته نحو المقبول، وفي مرحلة نمو الوعي هذه تتكشف أمامه بعض ما كان خافيا، أو غير واضح، ولذا يأتي السن الـ (40) الذي حدده الله عز وجل في القرآن الكريم (حتى إذا بلغ أربعين سنة، وبلغ أشده ...) ليبدأ بعده الإنسان يميل إلى المنطق من الأشياء، وتبدأ مجموعة البناءات المعرفية التي تأسست عبر عاطفته في زمن مضى في التحول الموضوعي، حيث تبدأ القراءات المنطقية للأشياء، فيتاح للإنسان عندها أن يغير الكثير من منهج حياته اليومية، فيقدم هذا؛ ويؤخر ذاك، فينعكس ذلك على تقييم الآخرين له، فيقال: «سبحان الله فلان متغير» أو «فلان عرف حقيقة نفسه» وغيرها من هذه التعبيرات القرائية للسلوكيات التي يبديها الناس، انعكاسا لمجموعة من التغيرات التي تحدث عند فلان من الناس، وقد ينتكس آخر، فيغرق نفسه في متون اللهو الممنوع، ويضيع في دروب الحياة، وتبقى رحمة الله به هي المآل والمرتجى.
يقال: «ما نتركه بالمنطق، يفترض ألا نعود إليه بالعاطفة» وهذا ما تشير إليه الفقرة الأخيرة أعلاه، حيث الانتكاسة، وهذا ما يذهب إلى معنى أن الإنسان «حمال أوجه» فما إن يصل إلى قناعة ما؛ في أمر ما، ويقتنع بالحجج الثابتة لذات الأمر، إلا ويعود إلى حيث بدأ، وكأن شيئا لم يكن؛ ربما تكون هذه الصورة من الحالات القليلة، ولكنها موجودة، وهذا ما يستدعي وجود القوانين، والمواثيق والشهود بين الناس، لأن الإنسان من «الأغيار» وتغيره، وتبدله يكاد لا يتجاوز مغرب الشمس بعد مطلعها، وهذه إشكالية موضوعية في الحقيقة الإنسانية، ولعل ذلك « والعلم عند الله عز وجل» ما أوقع أبانا آدم؛ عليه السلام؛ في مستنقع عصيان الله عز وجل، يوم أن أكل من الشجرة، بعد نهي الله له عن الأكل منها، والوسوسة التي وقع فيها آدم عليه السلام؛ هي ذات الوسوسة واقعة ومستمرة إلى قيام الساعة، ولا يقع فيها من مخلوقات الله عز وجل، إلا هذا الإنسان المتعهد بحمل الأمانة؛ أمانة الإصلاح والبناء، والتطور؛ وفق منهج الله عز وجل، وهذه في حد ذاتها إشكالية موضوعية في حقيقة الوعي الإنساني، وهي من الضعف بالضرورة، وإلا فكيف بإنسان وصل إلى قناعة أن ما كان يقوم به غير صالح، وهي قناعة لا يعززها إلا منطق الأشياء، فإذا به ينتكس، ويعود أدراجه منحدرا نحو الهاوية، ويمكن هنا استحضار موقف قوم النبي إبراهيم عليه السلام منه، عندما واجههم بمنطق الأشياء أن الأصنام التي يعبدونها لا تنطق، ولا تضر ولا تنفع من ذاتها (... فاسألوهم إن كانوا ينطقون) بعد أن كسرها، ولم تدافع عن نفسها، فاستسلموا لهذه الحقيقة في لحظتها، فإذا بهم يعودون إلى تأثيرات عاطفتهم (ثم نكسوا على رؤوسهم؛ لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) الآيات (63 -65) من سورة الأنبياء - كل ذلك استسلاما لعاطفته الجياشة، سواء هذه العاطفة تذهب به إلى المال، أو إلى المرأة، أو إلى الجاه، أو إلى هوى النفس المتعدد الأوجه والمسارات، وهذا ما يعذر فيه الإنسان في المراحل الأولى من العمر، حيث العاطفة الملتهبة أو المتأججة، حيث لا يستسيغ الإنسان في هذه المرحلة أي بناءات منطقية في الحياة، ويرى في الفرص المعروضة أمامه ضرورة اقتناصها بأي ثمن، وبأي وسيلة (تجاذبات العاطفة) حتى وإن استدعى الأمر التضحية بأولويات مهمة؛ تدخل ضمن منطقية الأشياء (الأمانة؛ الصدق؛ الرجولة؛ الشجاعة؛ التضحية؛ الحياد؛ المصلحة العامة؛ الوطن؛ الأسرة؛ الأصدقاء) فهذه كلها تذهب بصاحبها إلى مسارات المثالية (المنطق) حيث يتم تجاوزها لتلبية الإشباعات العاطفية المتأججة حينها، وقد تسمع النص التالي: «أي منطق تتحدث عنه، وأي خرابيط».
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني