منصات التواصل الاجتماعي ... الاصطفاف والانحياز
بعد استشهاد القائد إسماعيل هنية كتبت تعزية على صفحتي في الفيسبوك وكتب الكثيرون، وتلقيت وتلقى غيري رسائل من الموقع تفيد بأنه تم حظر حسابي بسبب عدم اتباعي لقواعد الموقع في النشر، وبسبب دعمي لأشخاص ومنظمات مصنفين من قبلهم بالخطرين.
لست وحدي من حُظر حسابه وأُزيلت صفحته من منصات التواصل الاجتماعي فهناك الكثيرون الذين اشتكوا من المعاملة التمييزية التي يلاقونها من مواقع التواصل الاجتماعي. فقد اشتعلت موجة الغضب بين رواد منصات التواصل الاجتماعي بسبب قيام شركة «ميتا» المالكة لتطبيقي فيسبوك وواتساب بملاحقة المحتوى الفلسطيني على شبكاتها، بما في ذلك عبارات النعي والتعزية باستشهاد القائد إسماعيل هنية الذي اغتالته قوات الاحتلال الإسرائيلي في هجوم استهدف مقر إقامته بالعاصمة الإيرانية طهران. لا يقتصر ذلك على شركة (ميتا) بل يشمل أغلب المواقع والمنصات مثل إكس وجوجل ويوتيوب وتقنية الذكاء الاصطناعي وغيرها من التقنيات الحديثة.
يرجعنا ذلك إلى مقولة «غزة الفاضحة» تلك الحقيقة التي تترسخ فترة بعد أخرى وكأنها معادلة أو عناد تقذفه غزة في وجوه الكثير، ولسان حالها يقول: كلما أطلتم أمد الحرب والإبادة وتمادت في وحشيتكم فضحتكم وكشفت زيف ادعاءاتكم. غزة أماطت اللثام وفضحت الكثيرين والقائمة تطول بين دول ومنظمات أممية وشخصيات وجامعات ومنظمات مجتمع مدني ووسائل إعلام وغيرها. يتتابع مسلسل السقوط والانحدار نحو الهاوية، مؤخرًا انضمت منصات وسائل التواصل الاجتماعي التي طالما تغنّت بالحرية وحق التعبير للجميع فتسقط عنها تلك المثالية وتغوص في بحر من الانحياز والمكيال بمكيالين والتمييز. بات من المؤكد أن العديد من منصات التواصل الاجتماعي انضمت إلى جوقة الاصطفاف إلى جانب العدو الصهيوني في حرب الإبادة التي يشنها على شعب غزة.
فقد اشتاط رئيس وزراء ماليزيا أنور إبراهيم غضبًا على الشركة بسبب إزالة تطبيقي فيسبوك وإنستجرام لمحتوى تعزيته في إسماعيل هنية (اعتذرت لاحقا الشركة وأعادت المحتوى) وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبله قد أمر بحذف تطبيق انستجرام وقامت هيئة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التركية بحجب الوصول إلى التطبيق «انستجرام» بعد قيام التطبيق بحذف ملايين المنشورات التي تنعى إسماعيل هنية.
في إطار الحملة الغربية على كل ما يرمز لفلسطين ونضال شعبها ضد الاحتلال الإسرائيلي والتي طالت الكثير من تلك الرموز كالعلم الفلسطيني والكوفية الفلسطينية وأسماء المدن والأشخاص المناضلين والكتاب، ورأينا مؤخرًا الحظر الذي فرضته ألمانيا على استخدام المثلث الأحمر المقلوب الذي تستخدمه المقاومة الفلسطينية للإشارة إلى ما تستهدفه من جنود وآليات العدو الصهيوني.
في الحقيقة نقف حيارى بالفعل وتشطح بنا الأفكار ويزداد اعتقادنا بأن كل شيء ينتجه الغرب مسخّر فقط لخدمتهم وأغراضهم لا تعنيه البشرية جمعا في شيء، وتزداد دهشتنا ونحن نعلم أن هذه المنصات تتخذ من حرية الرأي والمعتقد شعارًا ومنهجًا لها وقد فتحت أروقتها لمناصرة الكثير من ثورات المقهورين ضد الطغاة والفساد والظلم. الحقيقة التي باتت ندركها بأن هذه منتجات تقف معنا وتدعمنا فقط عندما نكون ضد بعضنا بعضًا، وإذا ما تمادت مع أهداف ما يروجون لها، بشرط دون تجاوزنا لخطوط حمر هم وضعوها وخصوصًا إذا تعلق الأمر بإسرائيل وجرائمها، لا حياد ولا مثالية ولا نزاهة في ذلك، كلها تتسابق نحو إسرائيل وتعمل لصالحها هكذا بكل بساطة، أهي حقيقة تتجلى لا يمكن نكرانها، أم نحن الذين نهول الأشياء ولا نفهم طبيعتها بالأساس؟
الحقيقة الساطعة هي أن الغرب بأكمله يقوم على سردية واضحة المعالم وهي سردية التفوق والعلو، السردية التي ترى في نفسها هي البشرية والإنسانية أما الغير والآخر فليس له إلا الخضوع والدونية.
يشعر الكثير من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي بالتضييق عليهم بحيث لا يستطيعون التعبير عن وجهة نظرهم في القضايا الإنسانية وخصوصا إذا ما تعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، فهذه التطبيقات تمارس ضدهم الانتقائية والتحيز وتقف صفًا بجانب الكيان الصهيوني وخصوصًا ما بات يتجلى للجميع في طوفان الأقصى. وقد تعدى ذلك من مرحلة التضييق إلى تعتيم ممنهج وتستر على جرائم إسرائيل والذي يُعد انتهاكًا صريحًا وواضحًا لحرية الرأي والتعبير لفرض ونشر سردية واحدة، ومنع الجانب الآخر تمامًا من التعريف بروايته ووجهة نظره والدفاع عنها أمام الآلة الوحشية الممنهجة في التعتيم وقلب الحقائق.
لا يقتصر ذلك على مواقع التواصل الاجتماعي فقط بل ذهبت إلى ذلك تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي حيث بُرمجت خوارزميات هذه التقنية بما يخدم الأغراض والسردية الصهيونية ويضيع حقوق العرب والمسلمين، لا يقتصر ذلك فقط على إعادة برمجة واختراع الكثير من القصص والحكايات وصياغتها بما يتوافق مع أهداف تلك السردية، فمثلا يتم استبدال بعض المصطلحات بأخرى فبدلًا من «احتلال» علينا القول «صراع»، وبدلًا من «الحرب» نقول «أزمة» أو «أحداث»، ومقاومة إرهاب ومقاومين إرهابيين وهكذا ومع مرور الوقت ونتيجة لسياسات مبرمجة واستراتيجيات مدروسة وخطط موضوعة قد ينتهي ويختفي بعض هذه المصطلحات، خصوصًا المرتبطة بالقضية الفلسطينية، وحق المقاومة للشعوب المقهورة. وفلسطين تصبح إسرائيل والقدس أورشليم وحائط البراق وحائط المبكى وهيكل سليمان. وفي هذا السياق تم حذف حساب لفتاة لمجرد اسمها فلسطين. وهناك تعاون وثيق بين مالكي هذه المنصات وإسرائيل لصد كل ما هو لا يخدمهم ويدحض سرديتهم. فقد ذكرت الناشطة الفلسطينية منى شتية، المدافعة عن الحقوق الرقمية، إن الجيش الإسرائيلي أو كما تسمى «وحدة السايبر الإسرائيلية»، يتعاون مع هذه المواقع وذلك بأن يرسل طلبات إلى مواقع التواصل لحذف وتحجيم المحتوى الفلسطيني. مما حدا للكثير من مستخدمي تلك المنصات إلى ابتكار بعض الأفكار للخروج من تلك الرقابة وتجاوز الحظر، فمثلا للكتابة بطريقة مشفّرة، واستخدام الأحرف بلا نقاط، أو استخدام فواصل ومسافات بين الأحرف، أو استغلال بعض الوسوم (هاشتاغ) التي تدعم إسرائيل وإضافتها إلى المنشورات الداعمة لفلسطين، لغرض انتشارها وضمان إيصالها لأكبر عدد من المتابعين. وفي الإطار نفسه استخدم أحد المؤثرين التقنية في فيديو له على إنستجرام، بحيث إنه استخدم وسمًا مناصرًا لإسرائيل وموسيقى منتشرة لدى الإسرائيليين حتى يصل الفيديو إلى عدد كبير، بعد حذف فيديوهات عدة كان يدعم بها القضية الفلسطينية.
ليس بعيدًا عن ذلك وفي السياق نفسه اشتكى الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو من انحياز تطبيق (واتساب) إلى المعارضة المشككين بفوزه في الانتخابات الأخيرة، فقد دعا إلى مقاطعة (واتساب) وقال مادورو «قولوا لا لتطبيق واتساب! سأقطع العلاقات مع واتساب، لأنّ واتساب يُستخدم لتهديد فنزويلا». لذلك سأحذف واتساب من هاتفي إلى الأبد، وشيئًا فشيئًا، سأنقل جهات الاتصال الخاصة بي إلى تلجرام، إلى وي تشات»، داعيًا مواطنيه إلى التخلّي طوعًا وتدريجيًّا وجذريًّا عن التطبيق المملوك لشركة ميتا الأمريكية. ووقع لاحقًا قرارًا يحظر فيه تطبيق إكس لمدة عشرة أيام.
يعني الفكرة الموجودة مع مالكي تلك المنصات هي الفكرة الصهيونية نفسها: نحن الوحيدون الذين يحق لنا أن نتدخل في شأنكم الداخلي في المقابل لا يحق لكم إلا أن تلتزموا بقوانين المنصات.
في المقابل نحن ندرك ذلك ولا ننكره، بل نزيد عليه ذلك التراشق والانقسام الحاد بيننا والاستقطاب الذي يضرب بأطنابه ويهدم ما تبقى من جسور الود.