ملاحظات حول تعقيدات اللغة المحكية
أثار تدشين النسخة المصرية من ويكيبيديا في 2008 موجة من الانتقادات. معظمها يعود للتخوف من أن يُشتت هذا تنبيه المُساهمين. لكني أُريد أن أُفكر بدوافع اللذين اقترحوا الفكرة، وعملوا عليها حتى اعتمادها، ووصلوا في إنتاج المحتوى الذي- بالرغم من العمل الجاد- ظل أقل من المحتوى الفصيح وأقل عُمقا وفق مؤشرات ويكيبيديا.
أظن أن الدافع الأهم هو الشعور بعدم الانسجام عند تبني نموذجين: واحد للحديث، والآخر للقراءة/ الكتابة. وأحسب أن هذا الجهد يأتي لإلغاء هذا الفصل في التعبير، وبالتالي في التفكير بين المستوى المحكي والمكتوب للغة.
للعربية اليوم مستويات عديدة، المستوى الفصيح الأرفع (أو اللغة القياسية)، وهي لغة التواصل الرسمي، اللغة الأكاديمية، اللغة المكتوبة عندما تكون موجهة للعموم. بينما يتحدث الأفراد لهجات تختلف باختلاف الدول، والمناطق. ظاهرة تعدد اللهجات ليست حكرًا على العربية. للألمانية - مثلا - نسختها القياسية التي تسمح بسكان المناطق المختلفة للتواصل مع بعضهم، أو الألمان مع جيرانهم في النمسا وليختنشتاين. إلا أن ما يُميز الظاهرة العربية- مع ذلك- هو كون اللغة القياسية لغة غير محكية. فيما اللهجة القياسية من الألمانية هي لهجة حية.
عندما كنا نتعلم الانجليزية في المدارس، تعلمنا أن نفكر بنسختي اللغة formal /informal على أنهما رديف العام/ الفصحى. لكن ذلك يتجاهل حقيقة أن اللغة العربية هي لغة مزدوجة diglossic أي أن هناك مستويين للغة: اللغة المكتوبة، واللغة المنطوقة المتعددة اللهجات التي تختلف جذريا عن المكتوبة. بالتالي يمكن للغة العامية أن تكون رسمية أو لا. كما يمكن للفصحى أن تستخدم خارج المجال الرسمي. كأن تُراسل صديقا بلغة فصحى عندما يتطلب الموضوع استخداما دقيقا للغة لا تسعفك به العامية - كمثال على الاستخدام غير الرسمي للغة الفصيحة. أو مناداة شخص ما «العم/العمة» عوضا عن مناداتهم بأسمائهم، كمثال على الاستخدام الرسمي اللهجة العامية.
لهذا فموضوع اللهجة العامية الرسمية، وموضوع الكتابة الرسمية بالعامية (كما في ويكي المصري) موضوع مُثير للاهتمام. دعونا نتناول بعض تجليات هذه الظاهرة.
التحية: نلاحظ أننا كلما ذهبنا أبعد في الرسمية، كلما أخذتْ اللغة صبغة دينية. أنت تكتب مثلا - حين تراسل عبر البريد الإلكتروني - «مرحبا»، لكن لتكون رسميا تقول: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته»، هذه هي الحال على الأقل في البلدان ذات الغالبية المُسلمة، لا أدري ما هي الحال في البلدان العربية المتعددة الديانات. والأمر سيان عند الحديث، كأن تقول: مرحبا، أهلاً، أو سلام، بينما تقول: «السلام عليكم» في المجال الرسمي.
التحية هي إحدى جوانب هذه الظاهرة، أما الجانب الآخر فيتمثل في المخاطبة. رسميا نُخاطب الآخرين بـ«الفاضل/الفاضلة» أما عند الحديث فنُخاطب من يكبروننا سنا بـ «العم/العمة» أو «الوالد/الوالدة» ومن بعمرنا بـ «الأخ/الأخت». تلون لغة الخطاب هذا طبقا للموقف - المجال الرسمي، مُقابل المجال غير الرسمي - واضح في الألمانية. إذ لا يقتصر الفرق على المفردة المستخدمة - كما هو الحال في الإنجليزية عند استخدام Sir/ma'am - بل يشمل النحو كذلك. على سبيل المثال يمكن لزميلك أن يسألك: «?Woher kommst du (من أين أنت؟)»، بينما يسألك موظف الاستقبال الذي يُدون معلوماتك: «?Woher kommen Sie (من أين أنتم؟)» يمكن التفكير بالاختلافات - تسهيلا - على أنها اختلافات في الضمير، وفي تصريف الفعل (استخدام لفظة الجمع بدل المفرد).
بينما تُوظف القواعد النحوية والصرفية على نحو نظامي في الألمانية، يجد العربي نفسه مسؤولا مسؤولية كاملة عن صياغة لغته الرسمية المحكية. في ألمانيا مثلا، إذا ما بدأت علاقتك بزميل ما في التحول إلى صداقة، أو بعد شيء من المعرفة، يمكن أن يقترح أحدكما البدء في مخاطبة بعضكم بأسمائكم الأولى (تماما كما يظهر في الأفلام المصرية القديمة). إلا أن موضوعا كهذا سيبدو غريبا ومفتعلا في سلطنة عُمان. أعترف أنني أجد نفسي أنادي أشخاصا بأسمائهم الأولى فيما يُنادونني بالأخت أو الأستاذة، والعكس صحيح، وللموقفين ذات الدرجة من الإحراج إذا ما حصلا. لكن ليس علينا أن نلوم أنفسنا إذا ما حدث هذا، فهو يعود إلى افتقارنا لقواعد واضحة للرسمية في اللغة المحكية.
لا يشعر الجميع بالارتياح لمناداة زملائهم بأخي/أختي؛ لهذا طرأ مؤخرا استخدام «أستاذي، أستاذتي». وهو شبيه - لكن أكثر راديكالية - بما نراه لدى الألمان الشباب من ميل إلى استخدام لغة موحدة مع الجميع، ونبذ لغة الخطاب الرسمية. لعل مرد هذا النفور من اللغة الرسمية يعود إلى:
(1) عدم انسجامها مع البساطة، فكلما تقدم الزمن، كلما تخلى البشر عن شيء من تكلفهم. بروتوكولات المخاطبة، أو ملابس الخروج - فكر بكل الطبقات التي يضعها رجل أوروبي أو امرأة أوروبية في القرن الثامن عشر، مقابل ما يرتدونه اليوم.
(2) تعزيز الطبقية في حال استخدمت في اتجاه واحد. في ألمانيا مثلا يُتوقع من الطلبة أن ينادوا معلميهم باسمهم الأخير، بينما لا يُتوقع من المعلمين أن ينادوا طلبتهم باسمهم الأخير إلا إذا تجاوزوا سنًا معينة غالبا حوالي الخامسة عشر. فالأمر إذا يكون مُشكلا - بالنسبة للبعض - إذا لم يكن متبادلا؛ لأنه يوحي بوجود حواجز؛ ولأنه أيضا يقوم على التراتبية.
(3) عدم الانسجام مع اللغة الخاصة والقيم الشخصية. مخرج ممكن لمن يشعرون بعدم الانسجام يتمثل اليوم في الفصل بين كينونتك العامة، وبينك ككائن بيروقراطي، عبر تجريد الكلمات من معناها، واستخدامها لغرضها الوظيفي «الديكوري» وحده.
ليس الغرض من هذا المقال لا الدفاع عن ولا انتقاد أي من الموقفين. كل ما أحاول قوله: إن لكل جيل طريقته في التعبير، وأن «الصراع بين الأجيال» - المصطلح الذي فقد شعبيته - موضوع يستحق الحديث، لا سيما عندما يتعلق باللغة، تحديدا العربية التي لها خصوصيتها الفريدة.
* نوف السعيدي كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم