مفارقة السلام

27 يناير 2025
ترجمة - أحمد شافعي
27 يناير 2025

بدت الصور التي ظهرت من غزة وإسرائيل في التاسع عشر من يناير راحة طال انتظارها، فقد تحررت ثلاث شابات إسرائيليات من أسر حماس ورجعن إلى أسرهن في إسرائيل، وأخذ صحفيو غزة يخلعون ستراتهم الواقية، وتحرر سجناء فلسطينيون -أغلبهم نساء احتجزن بلا محاكمة على مدى شهور كثيرة- من سجون إسرائيلية في الضفة الغربية، وبعد أربعمائة وواحد وسبعين يوما طويلا حالكا، جاء وقف إطلاق النار ليرجو كثيرون أن تنتهي هذه الحرب بعد طول انتظار.

كانت البداية بهجمة حماس المدمرة في السابع من أكتوبر، فكان ذلك هو اليوم الأكثر دموية في تاريخ إسرائيل، إذ لقي أكثر من ثمانمائة مدني مصرعهم، وتعرض مئتان وواحد وخمسون للأسر (أغلبهم مدنيون) وأعقبه خمسة عشر شهرا من حرب إسرائيل على غزة فكانت من أشرس الحملات العسكرية ضد شعب مدني في القرن الحادي والعشرين، إذ بلغت حصيلة القتلى في غزة ستة وأربعين ألف نسمة، وإن أشارت دراسة في لانسيت -راجعها النظراء- إلى أن الرقم الحقيقي أعلى من ذلك بعشرة آلاف. ويقدَّر أن أغلب القتلى نساء وأطفال وشيوخ.

تأتي اتفاقية وقف إطلاق النار ثلاثية المراحل لتضع إطار عمل لإنهاء الحرب، ولكن هذه النتيجة لا ترقى إلى «النصر الكامل» على حماس الذي وعد به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الإسرائيليين قبل عام. ولا تمثل الاتفاقية -بالنسبة لكثير من أنصاره وشركائه السياسيين- نتيجة مرحبا بها.

فقد رأى اليمين الإسرائيلي المتشدد في الحرب «فرصة إعجازية» لتحقيق رؤيته لما يمكن أن نطلق عليه الجمهورية الإسرائيلية الثانية: وهي دولة يهودية حصرا، واستبدادية، تمتد من نهر الأردن إلى البحر المتوسط، وتتحقق من خلال إخضاع الشعب الفلسطيني وتدميره وطرده، ولن يتخلى اليمين المتشدد ـوهو اللاصق الذي يثبت الائتلاف الحاكم- بسهولة عن هذه الرؤية.

منذ البداية الأولى، بدا التناقض واضحا بين التدمير العسكري لحماس ورجوع الرهائن سالمين، وبحلول مساء السابع من أكتوبر 2023، كانت الصورة لا تزال فوضوية، لكن كان معروفا أن عشرات إن لم يكن مئات من الرهائن الإسرائيليين موجودون في غزة، ومع ذلك لم يذكر بيان مجلس الوزراء الإسرائيلي في تلك الليلة عودة الرهائن، ووعد فقط بتدمير حماس، ولم تضف الحكومة إلا بعد أسبوع عودة الرهائن إلى أهدافها من الحرب، بجانب تدمير قدرات حماس العسكرية والحكمية، غير أن القصف الإسرائيلي والعمليات البرية عرَّضا الرهائن للخطر، والحق أن العديد لقوا مصرعهم بسبب نيران الجيش الإسرائيلي، وتم إنقاذ ثُمنهم في بعض هذه العمليات التي أدت إلى مقتل مئات المدنيين الفلسطينيين.

كانت اتفاقية وقف إطلاق النار الأولى، التي توصلت إليها المفاوضات في نوفمبر 2023 بإعادة مائة وخمس رهائن أغلبهم نساء وأطفال في مقابل مائتين وأربعين سجينا فلسطينيا، وقد أظهرت تلك الاتفاقية أن الرهائن لا يمكن أن يرجعوا إلا بالمفاوضات، ومع ذلك، حينما استأنفت الحكومة الإسرائيلية القتال بعد أسبوع واحد من وقف إطلاق النار، لم يحدث أي رد فعل، وكان كثير من الإسرائيليين لا يزالون مصدومين من هجمة السابع من أكتوبر، وشعروا أن التظاهر خطأ، في الوقت نفسه، كانت الرغبة في الانتقام لا تزال محسوسة على نطاق واسع.

في يناير 2024، تعهد نتنياهو بألا تتوقف إسرائيل حتى تضمن «النصر الكامل»على حماس، ولم يوضح قط ما معنى ذلك وكيف يمكن أن يتحقق، فلو تم تدمير حماس، لتعرضت بقية الرهائن للقتل على الأرجح. ومن يحكم غزة؟ استبعدت الحكومة الإسرائيلية الاحتلال العسكري المباشر للشعب الفلسطيني هناك، لكنها رفضت أيضا مناقشة أي بدائل، وكررت رفضها للنداءات بالسماح للسلطة الفلسطينية -التي كانت تسيطر على القطاع قبل استيلاء حماس عليه في 2007- بموطئ قدم في غزة.

كانت بين نتنياهو وحماس تفاهمات غير مكتوبة منذ سنين، فكلاهما كان يمقت اتفاقية أوسلو، التي كان يفترض أن تكون بشيرا بحل الدولتين.

وفيما بين 2014 و2023، سمح نتنياهو بنقل تمويلات قَطَرية إلى حماس من خلال إسرائيل، معتقدا أن الحكم الإسلامي لغزة يوفر ذريعة مثلى لاستبعاد قيام دولة فلسطينية، فمن شأن عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة أن تنهي هذه الذريعة.

بحلول صيف 2024، كان كامل أهل غزة تقريبا، وقوامهم مليونا نسمة، نازحين، يعيش أغلبهم في خيام في «المنطقة الإنسانية». لقد أقامت إسرائيل جيوبا و«ممرات» كبيرة تقسم القطاع. وفي أبريل 2024 أعلن نتنياهو أن إسرائيل «على بعد خطوة من النصر»، واستمرت التوغلات والغارات والاغتيالات، وبحلول أكتوبر 2024 كانت إسرائيل قد قتلت أغلب قيادة حماس، ومنهم قائد غزة يحيى السنوار ورئيس مكتب حماس السياسي إسماعيل هنية، وبعد أكثر من خمسة عشر شهرا باتت هذه أطول حرب خاضتها إسرائيل على الإطلاق، ويبقى النصر يراوغها، وتأبى الحكومة إعلان شروطها لإنهاء الحرب.

ولم يكن يخامر اليمين المتطرف في إسرائيل شيئا من تلك الشكوك، فقد كان «النصر الكامل» بالنسبة لهم يعني إعادة احتلال قطاع غزة، وتدمير الحياة الفلسطينية الحضرية والاجتماعية، وإقامة مستوطنات إسرائيلية في غزة، وقد وصفت أوريت ستروك عضوة الكينيست اليمينية المتشددة الحرب بالفرصة «الإعجازية» لإعادة صياغة الواقع السياسي والديموغرافي فيما بين النهر والبحر، وصوّر ذلك الفصيل الفلسطينيين في غزة بالإرهابيين المحتملين وقال إنه ينبغي أن يرحل أغلبهم في «هجرة طوعية» على حد وصف بعض الوزراء الإسرائيليين، برغم أن الأمر لم يكن طوعيا مطلقا، وينطبق مثل ذلك على الضفة الغربية.

ولم تتبن الحكومة أو الجيش في إسرائيل رسميا أيا من هذه الأفكار، بل إنها نأت بنفسها في بعض الأحيان عن خطاب الاحتلال والاستيطان الدائمين، ومع ذلك كانت العمليات الإسرائيلية في غزة تتوافق مع مخططات يمينية متشددة للتدمير الكامل.

فتم تدمير غزة تماما، إذ تحطمت أغلب المنازل أو تعرضت لأضرار شديدة، وجميع جامعات غزة باتت أنقاضا، وأغلب المستشفيات والمدارس هوجمت، والبنية الأساسية تعرضت للقصف، وكل هذه الأفعال أشارت إلى جهد مستدام لجعل القطاع غير قابل على الدوام لحياة الفلسطينيين بما يمهد السبيل لطردهم.

وبات هذا واضحا في الأشهر الأربعة الأخيرة من العمليات في شمال غزة، إذ أرغمت إسرائيل عشرات الآلاف على الخروج، ودمرت منشآت طبية، وحدَّت من وصول المساعدات، ودمرت عمليا كامل البيئة المبنية، حتى وصف موشيه يعلون رئيس الأركان ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق ما يجري بالتطهير العرقي، ويبدو أنه يستحيل ربط الخطاب الإبادي، واسع الانتشار بين الساسة الإسرائيليين والقادة العسكريين، وبين عمليات إسرائيل العدوانية التدميرية في غزة في ظل عدم وجود هدف واضح عدا التدمير نفسه.

يجب النظر إلى تسوية غزة بالأرض في سياق أجندة الحكومة الراديكالية في الضفة الغربية وفي إسرائيل نفسها يرى كثيرون أن التغييرات القانونية التي ألحقها وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وهي تحديدا نقل الإشراف على الفلسطينيين والمستوطنين الإسرائيليين من أيدي الجيش إلى الحكومة، ضما قانونيا للضفة الغربية. وفي ظل تولي إيتامار بن جفير وزارة الأمن الوطني تحولت قوة الشرطة إلى ميليشيا حكومية، فقمعت المتظاهرين المناهضين للحكومة. ومرت سريعا في الكنيست تعديلات دستورية لتقليص سلطة القضاء والحد من المشاركة الديمقراطية للمواطنين الفلسطينيين في الانتخابات. وتنحدر إسرائيل إلى نظام حكم ثيوقراطي استبدادي قائم على مبادئ التفوق الإسرائيلي اليهودي.

ثم جاءت اتفاقية وقف إطلاق النار، فبعد ضغوط شديدة من دونالد ترامب، وافق نتنياهو على سحب العديد من المطالب التي منعت الاتفاق منذ مايو 2024 على الأقل.

فالآن، على سبيل المثال، وافق على سحب القوات الإسرائيلية من الحدود بين غزة ومصر (أي ممر فيلادلفيا)، بعد أن وصفها سابقا بأنها أصل استراتيجي لا يمكن أن تتخلى إسرائيل عنه أبدا.

وتمثل الاتفاقية لليمين المتشدد ضربة حقيقية إذ تهدد بعرقلة أحلام التطهير العرقي التي تراودهم، فاستقال بن جفير وحزبه القومي المتطرف (القوة اليهودية) من الحكومة في التاسع عشر من يناير، وهدد سموتريتش بمثل ذلك، وتحاول أبواق الحكومة في وسائل الإعلام اليمينية جاهدة تفسير انقلاب موقف نتنياهو.

ويأتي مشهد رجال حماس، إذ يتجولون علانية في غزة ليثير السخرية من «النصر الكامل» الذي حققه نتنياهو، غير أن معاودة حماس الظهور كانت أمرا محتوما نظرا لعدم وجود أي خطة بديلة، وقد يؤدي ظهور هيئة حاكمة فلسطينية شرعية في غزة إلى دعوات لإقامة دولة فلسطينية في غزة والضفة الغربية. وهذا أمر مرفوض تماما من نتنياهو وحكومته، فبدلا من ذلك، قد نشهد إحياء لعهده الحربي مع حماس. فنجاة الجماعة توفر لنتنياهو ذريعة لتمديد الحرب إلى أجل غير مسمى، لأنه يخشى أن يضطر إلى الخروج فور انتهائها، ومن المفترض على نطاق واسع أنه سيحاول تخريب مفاوضات المرحلة التالية من وقف إطلاق النار لاستئناف القتال.

ويتوقف نجاح وقف إطلاق النار على الشعب الإسرائيلي، وقد أثار إطلاق سراح الرهائن الثلاث الأوائل موجة من المشاعر. فللمرة الأولى، أكد المتحدث تلو الآخر في قنوات إسرائيلية رئيسية أنه على الحكومة أن تعيد جميع الرهائن إلى ديارهم وتنهي الحرب، ويبدو الآن، خلافا لنوفمبر 2023 عندما انهار اتفاق وقف إطلاق النار الأول، أن أغلب الإسرائيليين لن يقبلوا إنهاء الاتفاق قبل عودة جميع الرهائن. واستئناف الحرب يعني حتما موت الرهائن المتبقين، بلا هدف واضح عدا استمرار تدمير غزة.

لكن مشاعر الشعب شيء، وسياسة الحكومة شيء آخر، فحتى بعد رحيل بن جفير وحزبه عن الحكومة، لا يزال الائتلاف يحظى بأغلبية ضئيلة تبلغ اثنين وستين مقعدا من مائة وعشرين مقعدا في الكنيست، ويمكنه أن يتجاهل الرأي العام، وسوف يتطلب الأمر مظاهرات حاشدة -لم نشهدها منذ صيف 2023- لإجبار الحكومة على تغيير مسارها، وقد يؤدي هذا إلى انهيارها، وإلى إجراء انتخابات جديدة وهو ما يريده نحو 70% من الإسرائيليين.

يتمثل العامل الآخر في ترامب، وتشير الدلائل حتى الآن إلى أن الإدارة الأمريكية الجديدة عازمة على متابعة الاتفاق وإنهاء الحرب، وإجبار نتنياهو على ذلك، وتتمثل الخطة الكبرى، الماثلة في الخلفية منذ سنوات، في تنظيم تقارب علني بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، مع التحرك باتجاه فكرة مبهجة خاصة بدولة فلسطينية، ومن المستبعد كثيرا حدوث مثل هذا في ظل حكم نتنياهو، ومن غير الواضح أيضا إلى أي مدى قد يكون البيت الأبيض مستعدا للضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي، نظرا لما لليمين المتشدد في إسرائيل من حلفاء أقوياء في دوائر ترامب، وليس مؤكدا بحال ما إذا كان لدى إدارة ترامب من المقدرة والصبر ما يلزم للإشراف على المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، فقد تستولي أجندة ترامب المحلية المتطرفة على كل اهتمامه قريبا.

وثمة سبب لشيء من التفاؤل في الأمد القريب، فقد توقف في غزة القصف الإسرائيلي الذي قتل العشرات يوميا، ومن المتوقع أن تتدفق المساعدات إلى القطاع بما يحقق بعض الراحة، وقد تتيح عودة الرهائن للمجتمع الإسرائيلي أخيرا أن يتجاوز صدمة السابع من أكتوبر، وربما يبدأ المزيد من الناس في إدراك حجم الفظائع الإسرائيلية في غزة.

ولكن هذه أرض رخوة، فمن أجل أن تبدأ إعادة إعمار غزة، لا بد من أفق سياسي، ومن الصعب أن نرى حكومة إسرائيلية -حتى في حال تغيير نتنياهو- على استعداد للانخراط في مثل هذه العملية، وعلى مدى الأشهر بل والسنوات المقبلة، سوف يستمر مليونا فلسطيني في غزة مقيمين في مخيمات مؤقتة، وظروف مريعة.

وهذه أرض خصبة للاضطراب والعنف، وتظل رؤية اليمين الإسرائيلي المتطرف الكبرى القائمة على تدمير الشعب الفلسطيني وطرده مما بين النهر والبحر، وإقامة نظام حكم يهودي جديد، تشكل تهديدا حقيقيا وخطيرا، حتى وإن بدا أن هذه الرؤية تعرضت لنكسة.

يائير والاش مؤرخ اجتماعي وثقافي لفلسطين وإسرائيل، وباحث في الدراسات الإسرائيلية في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن.

ذي نيو ستيتسمان.