معونات ومعنويات... يوميات الحرب

08 أكتوبر 2024
08 أكتوبر 2024

الثلاثاء...

هو العجز المطبق. ماذا يمكن لك أن تفعل، في هذه اللحظات بالذات، حين يشتدّ صوت الطائرات المحلقة على علو منخفض، وصوت الانفجارات التي تلي، سوى أن تتنقل من محطة فضائية إلى أخرى، لا لتعرف أي الأماكن التي طاولها القصف، وأي الأحياء التي دُمرت بوحشية ومنهجية، بل لتتأكد من أنك لا تزال حيّا. أن تمسك بــ"الريموت كونترول" وأن ترى، هي اللحظة الأولى التي تخبرك أنك لا تزال شاهدا على ما يجري، وأن تشهد يعني بقاءك على قيد الحياة لغاية هذه اللحظة.

تمرّ المشاهد. لم تعد تتأثر كثيرا. كأن الغاية من ذلك كلّه أن تفقد إنسانيتك، أن تنسى تعاطفك مع الذين لقوا حتفهم، لتفكر فعلا، متى أنت شخصيا ستلقى حتفك الخاص. كأن كلّ ما يجري أمامك، ليس جزءا من موتك. وكأن الحرب تريد منك أن تقطع حبل سرتك مع هذا العالم، لتبقى وحيدا بين جدران المنزل، ولا تعرف إن كنت أصبحت ميتا أم ما زلت تتنفس، تتنفس فقط، لأن أي رغبة في أي شيء آخر، لا معنى لها في هذه اللحظات.

الأربعاء...

لم تعد بحاجة إلى كثير وقت لتكتشف أنك أصبحت كائنا تلفزيونيا، وأنت الذي كنت تكره الجلوس أمام هذه الآلة الحمقاء طيلة حياتك. وعلى الشاشة خطباء من كلّ الأطياف. محللون استراتيجيون بالمئات، لا تعرف من أين ينبتون. هناك الثوريون والمستسلمون، القوميون والمنبطحون، الليبيراليون والعقلانيون، المحايدون والمنغمسون... وغيرها المئات من الصفات الأخرى التي يمكنك أن تطلقها عليهم. من أين يأتون بكلّ هذه المعلومات؟ من أين يأتون بكلّ هذا الكلام، وليس أمامك سوى كلام وحيد: عدد الشهداء الذي يتزايد كلّ دقيقة. عدد المربعات السكنية التي تتهاوى كأنها لم تكن. عدد النازحين الذين يفترشون الأرض بانتظار معونات لا تدري إن كانت ستأتي. شعب بأسره يعيش هذه الأيام على المعونات و ... المعنويات. أي معنويات وأولئك الذين يتحدثون أمامك يستمرون في تحذيرك بأن الحرب لا تزال في بدايتها وأن "الآتي أعظم". كنّا في الماضي ننتظر كلام المثقفين، أن نراهم ونستمع إلى فكرة من أفكارهم لتجعلنا سعداء. لقد تغير العالم. لقد اختفت اليوم هذه الطبقة لتحل مكانها طبقة "الخبراء الاستراتيجيين"، الذين يزيدون في تعاستنا، والذين لا يمكن لهم إيقاف ولو جولة واحدة من هذا القصف الذي ينهمر حولك من كلّ الجهات.

الخميس...

لست بحاجة لا إلى التفكير ولا إلى أي تجربة داخلية لتكتشف أن لا شيء له معنى بعد أمام هذا الموت، وبخاصة الحياة. هل من معنى حقا لهذه الحياة؟ تقول لنفسك، طالما أنك تكافح وطالما أنك ما زلت شاهدا على ما يجري، فأنت تقدم معنى لحياتك. تحاول أن تعيش بنفسك داخل محاكاة المعنى، إذ لا يمكن أن تعيش، في نهاية الأمر، من دون أن تبرز معنى.

لكن الأشخاص الذين يتصرفون ضمنيًا يعتقدون أن ما يفعلونه له معنى. وإلا فإنهم لن يزعجوا أنفسهم. إذا توصلنا إلى الاستنتاج العملي من رؤيتي للأشياء، فسنبقى هنا حتى نموت، ولن نتحرك، ولن يكون من المنطقي ترك الكرسي أمام الجهاز حيث نحن. وجودي ككائن حي يتناقض مع أفكاري. منذ أن كنت على قيد الحياة، أفعل كل ما يفعله الأحياء، لكنني لا أؤمن بما أفعله. يؤمن الناس بما يفعلونه لأنهم لا يستطيعون القيام به بأي طريقة أخرى. لا أؤمن بما أفعله، ومع ذلك أجدني مضطرا لأؤمن به قليلا على الرغم من كل شيء: هذا كل ما أستطيعه الآن.

الجمعة...

حاولت أن أغيّر المشهد هذه الصبيحة. حاولت أن أعود إلى قراءة الكتاب الذي بدأت به من أيام طويلة، وتركته جانبا. كتاب عن مفاهيم الشعر وأشكاله. انتابتني نوبة من الضحك المرير. ماذا يعني بعد أن نناقش مفهوم قصيدة النثر والتفعيلة والعمود الشعري في زمن نُعلَّق فيه كلّنا على العمود؟ هل الثقافة هي فقط لوحة تجريدية تنافس لوحة انطباعية، بينما اللوحة الوحيدة اليوم هي واقعية الخراب المتنقل باسم الدين تارة، وباسم القومية طورا، وباسم الطائفة والمذهب في كثير من الأحيان ... هل المقصود بكلمة ثقافة، هذه الأشياء "الصغيرة" التي "نتشاجر" عليها؟ ماذا يمكن لنا أن نقول عن التراث والحداثة وما بعد الحداثة والهُوية وما شابه من أسئلة تلهّينا بها منذ عقود، بينما حركية الواقع تكمن في مكان آخر، هو هذا المكان المعلق الذي يبدو خارج الزمن وخارج الحياة. هل الثقافة هي أن تحب الموسيقى السيمفونية أم أن تنحاز إلى الطربيات العربية، بينما الموسيقى الوحيدة، هذه الأيام، عويل أناس يقعون أرضا من جراء إجرام دولة عدوة، لا هدف لها سوى تغييبك عن الوجود.

السبت...

كل شيء بقي اليوم في التباسه أيضا. لسنا، في الحصيلة النهائية، سوى كائنات تاريخية ملتبسة، تحاول العيش في ثقافة ملتبسة. في بلاد ملتبسة. ولأننا نحيا هذا الالتباس المستمر منذ أن تكونت ثقافتنا، أو ربما منذ أن وعينا أننا نشكل -مجتمعين- "وحدة" ثقافية ما. لهذا قد يكون علينا اليوم أن ننطلق من هذه النقطة بالذات، أي أن نعيد التفكير، لا فقط، بشأن الثقافة وبشأن استراتيجياتها المتنوعة، بل علينا قبل ذلك كلّه أن نعيد التفكير بإنسانيتنا. هذا هو السؤال الثقافي الأهم الذي يتبدّى لي في هذه اللحظة بالذات، قبل أن نتحول إلى كائنات منقرضة تُعرض رفاتها بعد آلاف السنوات في المتاحف.

الأحد

الأفكار ليست مقدسة، بل هي قابلة للنقاش. من هذا النقاش علينا أن ننطلق لصوغ رؤى ولصوغ استراتيجية تجمع أكثر ممّا تفرق. وبين ذلك وهذا، ما زلنا في هذه اللحظات نشاهد ما يحصل من على الشاشات، وكأن ما يجري يحدث على كوكب آخر. نهز رؤوسنا ونصمت. بانتظار لا أعرف ماذا. هذا الانتظار ليس عجزا، بل هو بسبب استقالتنا نحن من ندّعي أننا نقرأ ونكتب، من ندعي أننا داخل الشأن الثقافي. لهذا من أولى أولوياتنا في هذه اللحظة بالذات، أن نعيد التفكير بما يجري، وألاّ نصمت ... وإلا سيكون الصمت الأبدي. لكن فعلا ماذا علينا أن نقول؟

الاثنين...

كل المحاولات التي نصنعها للتغلب على اليأس تأخذنا في اتجاهات مجنونة.

تقول لنفسك بأنه يجب إزالة هذه الدولة المارقة. أن تحرقها. وتسأل: هل الطبيب الجراح، حين يقوم باستئصال السرطان، يشعر بمثل هذه العاطفة السخيفة؟ إنه يزيله من دون أي تأنيب ضمير. نعم علينا أن نكون قساة. فالولادة عمل وحشي. أن نعود إلى الحياة، هي بدورها عملية أكثر توحشا. والسؤال، كيف يمكن لنا بعد أن نؤمن بجمال هذا العالم.