معضلة الوعي بين العقل والدماغ

08 يوليو 2023
08 يوليو 2023

انقسم المجتمع العلمي في قضية الوعي ومعناه إلى عدة مدارس أشهرها المدرسة المادية التي ترى الوعي من المخلفات البيولوجية التطورية التي لا تتعدى حيّز العمليات الدماغية، والتي تكون على سلّم هرم من الدرجات؛ أعلاه درجة الوعي الإنساني، إلا أنّه يبدأ مع الإنسان ويتطور مع ظروف الحياة ومهاراتها المكتسبة، وينتهي بموت الإنسان وفنائه، وهناك فريق علمي آخر يقترب من المدرسة الروحية ولا يعتقد بمادية الوعي؛ إذ يرى الوعي خارجا عن المنظومة البيولوجية في الدماغ ولا يفنى بموت الإنسان، وأن هناك أبجديات أقرب إلى النمط الميتافيزيقي يعوق العلم من تفسير الوعي وفق منهج علمي حديث. تستند كل مدرسة من هذه المدارس إلى مبرراتها؛ سواء العلمية أو الفلسفية أو حتى الدينية، وفي كل الأحوال لابد من التوازن في مثل هذه القضايا المعقّدة التي تحتاج إلى تعمق علمي وفلسفي في تفسيرها.

نَشَرْتُ قبل فترة- مقالًا بعنوان "الذكاء الاصطناعي ليس عقلًا"، وذكرتُ في هذا المقال العقل بمعنى الوعي وليس الدماغ؛ كوني لا أرى العقل "الوعي" ذا طابع آلي "بيولوجي" بحت؛ بل هو أقرب إلى الطابع الغائي الذي ينتمي للعقلانية الكونية المشتركة المتحررة من القيود البيولوجية ومحدوديتها، وهنا أرشد القارئ لكتابي "بين العلم والإيمان" الذي عرضت فيه تفاصيل هذا الرأي واستدلالته.

أما قدرات الذكاء الاصطناعي فتتمثل -حتى وقتنا- في محاكاة الدماغ عبر نظامه العصبي المرتبط بعضه ببعض، وعبر قيامه بالتعلّم والخروج بمخرجات تشبه آلية التعلّم التي يقوم بها الدماغ البشري، ولكن هذا الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يمتلك الشعور الحقيقي بالوجود، ولا يمكن أن يتجاوز منظومته الدماغية الرقمية ليتصل بنظام عقلي كوني يدرك بواسطته ذاته؛ وبالتالي لا يمكن أن يملك "الوعي".

في هذا المقال لست بصدد التوسع في مسوغات نفي امتلاك الذكاء الاصطناعي للعقل؛ فهذا موضوع فرعي يحتاج إلى تفصيل مستقل، ولكنني أجنح إلى إعادة طرح معضلة فهم العلم للوعي في ضوء العقل والدماغ، وكما أسلفت سابقًا؛ فالعلماء "الطبيعيون" منقسمون في هذا إلى عدة آراء أبرزهما الرأيان اللذان سقتهما في الفقرة السابقة.

المنطلقات التي ينطلق منها الماديون في منح الوعي والعقل الصفة المادية تمد بصلة إلى الآلية التطورية التي تأخذ مسلك التطور التسلسلي الذي ينطلق من الخلية الواحدة مرورًا بكائنات بدائية التطور حتى الإنسان "الكائن الأكثر تطورًا"، وهنا -أيضا- لا يسع المقال في مناقشة هذه القضية -قضية التطور البيولوجي- وعرض ما لها وما عليها حسب الضوابط العلمية، ويمكن أن أخصص لها مقالًا مستقلًا.

ربط مفهوم الوعي والعقل بالآلية التطورية هو أشبه بربط الدماغ وتطوره بهذه الآلية البيولوجية، وهنا تقع معضلة فلسفية وعلمية تميط اللثام عن ما يمكن أن يبدو "مغالطة" في فهم الوعي والعقل وإلصاقهما "عنوة" بالدماغ البيولوجي ذي التأثيرات الكهربائية والكيميائية؛ فهناك ظواهر تعكس مفهوم الوعي عند الإنسان وعقلانيته مثل النظام الأخلاقي الفريد من نوعه؛ حيث تنسجم مبادئ الحب والرحمة والعدالة في مشاهد يتفرد بها الإنسان دون سواه من الكائنات الحية لتدل على الوعي الأخلاقي، وهناك مظاهر تنمّ عن وجود الوعي والعقل لم يجد العلم لها سبيلا حتميًا في تفسيرها، مثل التخاطر والرؤى المنامية، مما اضطر البعض أن يركنها إما في خانة الأوهام التي لا تستند إلى براهين علمية، وإما إلى خانة المظاهر الميتافيزيقية التي لا يملك العلم إليها سبيلا.

سبق لي مناقشة هذه القضية المتعلقة بالوعي والعقل والدماغ في كتابي "بين العلم والإيمان"، ومما خلصت إليه أن الوعي هو العقل، وأن العقل -وفقًا لفرضية العقل الممتد- لا يُحصر في محيط الدماغ الضيّق بل ممتد ليشكّل ما يمكن أنْ نطلق عليه "العقل الكوني" الذي يتسع إلى مصطلح "الوعي الكوني"، وهناك مقاربات علمية ساقها العالم الفيزيائي روجر بنروز (Roger Penrose) مع العالم الأمريكي ستورات هيمروف (Stuart Hameroff) اقتربت من التأويل الكوانتمي "فيزياء الكوانتم" للوعي وآلية عمله؛ حيث إنّ ظاهرة التشابك الكوانتمي التي تتعلق بظاهرة الاتصال المستمر بين الإلكترونات والتأثير فيما بينهما حتى في حال انفصالهما عن بعضهما البعض بمسافات هائلة تقاس بالقياسات الضوئية. قادت هذه الفرضية كِلا العالِمين إلى نظرية تُعرف بـ "نظرية الاختزال الموضوعي المنظم أو المتناغم" " Orchestrated Objective Reduction"، وتعمل وفق آلية الإرسال والاستقبال بين الدماغ الفردي والعقل المشترك "الوعي الكوني"، وهي آلية كوانتمية تعمل عبر أنابيب دقيقة داخل الدماغ.

هنا يمكن لنا الولوج إلى مفاهيم الوعي والعقل أو ما يمكن أن نطلق عليه الوعي المشترك أو الكوني وفق مقاربة علمية بعيدة عن التأويل الميتافيزيقي، وهذا يرجعنا إلى فرضية تُعرف بـ"العقل الممتد" التي تتناول نفس هذه المعطيات الداعية إلى الفصل بين الدماغ البيولوجي والعقل الواسع "الكوني" الذي لا يمكن حصره في الإطار البيولوجي، وهنا نرى أنّ فرضيات مثل العقل الممتد والوعي الكوني تمتلك حظًا أوفرَ في تحديد ماهية الوعي وعلاقته بالعقل والدماغ، سواء كان فهمنا لها وفقًا للمنهج العلمي الحديث "الكوانتمي" مثل التي جاءت في محاولة العالمين "روجر بنروز وستورات هيمروف" أو وفقًا للبديهات الفلسفية التي تتناول قضايا تفسيرها أقرب للعالم الميتافيزيقي، مثل الرؤى المنامية والتخاطر الذي يجعل من الوعي الإنساني مخترقًا -في بعض حالاته النادرة- للخط الزمني، مثل القدرات التنبؤية لأحداث مستقبلية.

تقترب مباحث العلم إلى إرجاع بعض ما عجز عن تأويله -مسبّقا-، مثل علاقة الوعي والعقل والدماغ إلى دائرته الرصينة، والابتعاد عن الخلط بين النظام البيولوجي للدماغ ونظام الوعي المشترك "الكوني" الذي يملك قواعده العلمية الخاصة به، والذي من الممكن تأويله بواسطة النموذج الكوانتمي. معضلة فهم العلم للوعي ليست من القضايا العلمية السهلة، بل من القضايا المعقدة التي لم تحسم حتى يومنا؛ فهناك من يرى وجود الوعي الفردي الذي يتجاوز -أحيانا- حدود الذاتية الواحدة ليكون وعيًا مشتركًا سواء للإنسان -حالة الوعي العالية - أو حتى للنظام الذري وتحت الذري، مثل الوعي -المحتمل- للإلكترونات رغم صغرها المتناهي، مثل ظاهرة التشابك الكوانتمي. يعجُّ عالمنا بعجائب الظواهر التي يعجز العلم -في كثير من الحالات- عن تفسيرها، وهذا يقودنا إلى إدراك مدى ضآلة معرفتنا بالأشياء، وأن العلم مستمر في تطوره مهما بلغ من سطوة.