معادلة النصر والحرية في غزة
أكتب هذا المقال في خضّم تشابك الأحداث في غزة وتعقّدها، ويمكن أن يعدّ كثيرون هذا المقال بأنه يطرق باب السياسة وقضاياها المعقدة، إلا أنني أولا لا أدّعي وصلا -كبيرا- بالسياسة وتحليلاتها الشائكة، وثانيا لا أجد أن قضية غزة والكتابة عنها تتطلب مني أن أكون متخصصا في الشأن السياسي أكثر من تطلّبها أن أكون ذا ضميرٍ حيٍ يملك المشاعرَ الإنسانية اتجاه قضايا أمته التي يَألم لألمها ويحس بأوجاعها؛ فهذا حق أيّ كاتب وأديب وشاعر ومشتغل في الحقل العلمي والثقافي أن يكون له رأيٌ في قضايا الإنسانية بشكل عام وقضايا أمته بشكل خاص، وأن يسهم بما يجود به قلمه وفكره.
تجاوز العدوان على غزة أيامه المائة منذ أن بدأ، ونرى -بكل أسى- معاناة شعب غزة والظلم الذي يقع عليهم من الكيان الصهيوني الذي جاهر بجرائمه وأكّد عليها قولا وعملا أمام مَرْأى العالم ومسمعه؛ مسجلا بذلك إحدى أعظم جرائم الإبادة الجماعية التي عرفها التاريخ، وأمام كل هذا الظلم الذي يصيب أهل غزة مع تكالب حكومات الغرب المساندة لهذا الكيان الذي يصحبه ضعف الموقف العربي وتضعضعه تتشكّل لنا -في خضّم هذه المِحن- ما يمكن أن أطلق عليها «معادلة النصر والحرية» الخاصة بغزة وحدها دون أحد غيرها؛ إذ تتفرد غزة بمعادلة لا يمكن أن نفهمها بمفاهيم الرياضيات وقوانين الفيزياء، ولا يمكن للجيوش العسكرية وكلياتها إدراك هذه المعادلة وفكّ شفراتها لتحولها إلى نظريات قابلة للتطبيق.
تتفاعل معادلة النصر والحرية في غزة وفقا لعدة محاور أهمها الإيمان -الذي تمكّن في قلوب رجال المقاومة وأهل غزة عامة- الذي يجسّد معنى الكرامة والحرية والشهادة والصبر؛ فكل شيء دون هذه المعاني الإيمانية يهون تضحيةً لمحور الإيمان ومعانيه؛ فنجد المقاوم الفلسطيني يحملُ عقيدةً صُلبة تتجاوز كل مراتب الحياة وزخارفها يترجمها الواقع في نصرٍ أو استشهاد، ويحمل عامّة الشعب في غزة هذه المعاني دون أن تتزعزع مواقفهم رغم الألم والمحن، ولا يمكن أن يُفقه هذا المبدأ الإيماني دون وجود التربية الروحية التي تصقل النفس وتبارك عزيمتها، ولنقترب من محور آخر لهذه المعادلة هو انتفاض شعوب العالم الحرّ -بكل أعراقها وأديانها- ومساندتهم لغزة وشعبها واستنكارهم للظلم الذي يحلّ عليهم، وهذه سابقةٌ لم نرَ لها مثيلا من قبل من حيثُ اليقظةُ الإنسانية التي تحولت إلى أداة ضغط تُرجم بعضها لتكون وسيلةً للضغط على القرارات الحكومية، وفي حالات نادرة تُحيلَ المؤيدَ منها للكيان الصهيوني إلى ناقدٍ لهذا الكيان ومستنكرٍ لجرائمه -ولو على حياء بغطاء سياسي مدروس يُراد به إخمادُ نارِ الشعوب الغاضبة- أو على الأقل ناء بنفسه عن المشهد -وإن كان ظاهره يخفي باطنه المتمسك بدعم الظلم، ولكن انتفاض شعوبه قاده ليُظهرَ وجها آخر-، وتُرجم أيضا إلى أسلوب ضغط على الشركات التجارية الداعمة للكيان عبر سياسة المقاطعة التي لم يسبقْ أن يصل تأثيرها كما وصل الآن، ومن محاور هذه المعادلة كشف زيف حكومات الغرب وبيان نفاقهم الذي خيّب آمال شعوبهم قبل شعوب العالم التي ذاقت من ويلات هذه الدول الغربية المرارة والظلم في شكل استعمار أو حروب أو تدخلات سافرة في شؤونهم الداخلية لا تفضي إلا إلى الخراب ونهب الثروات، ولا عجب -حينها- أن نجدَ دولةً مثل جنوب أفريقيا -التي سبق أن عانت ويلات الفصل العنصري والظلم- أن تتحرك مُصّوبةً مدافعها القانونية ضد هذا الكيان الصهيوني عبر محكمة العدل الدولية.
أمام هذه المحاور -المذكورة آنفا- التي حددت عناصر هذه المعادلة التي جعلت من غزة أيقونة للنصر والحرية في العالم أجمع لا نحتاج إلى كلفة في التحليل السياسي والعسكري لنستنتج من سينتصر ومن سيخسر؛ فالنصر لا يقاس بالدماء قدر ما يقاس بنيل الحرية والكرامة الذي يعكسه الصمود على الأرض رغم الدماء التي تراق، وهذا الصمود -مع تكلفته الباهظة والمؤلمة- يغيض الظالم -الكيان الصهيوني- الذي لم يعدْ يُجيد إخفاء جرائمه التي لم تطلْ سوى العُزّلِ من عامة الناس في حين أنه فشل في تحقيق هدف عسكري واحد، ولم يعدْ يجد ما يقدّمُهُ لشعبه المخدوع سوى أكاذيب واهية باتت أضحوكة إعلامه الداخلي قبل الإعلام الخارجي في العالم؛ فولّد ذلك الانقسامَ داخل مؤسساته العسكرية والحكومية والمجتمعية؛ ليصبح هشا من الداخل وأوهن من بيت العنكبوت، أوما يكفيه ما يعانيه من خسائر اقتصادية ومالية لم يسبق أن عاش مرارتها؟ أوما يكفيه أن المقاومة تُذِيقُهُ كل يوم -على الميدان عبر قتل جنوده وتدمير آلياته- ما يؤلمه ويحاول كبته دون جدوى؟ أوما يكفيه سقوط قناعه أمام العالم؛ فتضاعف عدد كارهيه؛ فأضحى الغالبية يرونه سفاحا يهدد حياة الإنسان وحضارته؟ يتضح من كل هذه الشواهد والمشاهدات أننا أمام مرحلة جديدة أعطت لـ«معادلة النصر والحرية» واقعيتها المعقولة؛ فتُمكّننا أن نعاينَ نصرا قريبا يلوح في الأفق مُؤذِنا بسقوط مدوٍ للظلم والظالمين ويمنح الحرية المسلوبة لفلسطين أجمعها؛ فتقدّم غزة هذه التضحية التي تتطلبها معادلة النصر والحرية بكل جدارة؛ لتكون غزة عنوانها في القرن الواحد والعشرين.
أكرر مجددا أن هذا المقال لا يحاول أن يتجسّدَ الدور السياسي عبر التحليل المُفضِي إلى خبرٍ يحتمل الخطأ والصواب أو إلى إنشاءٍ يُدغدغ عقولَ الساسة والعامّة، ولكنه مقال يحمل آمال كاتبه وتفاؤله عبر شواهد تُؤسّس لما أُطلقُ عليه «معادلة النصر والحرية»، ولا يمكن أن أرى بعين ذاتية مجرّدة من الواقع الملموس؛ فالرؤية تنبثق من مفردات وأفعال موضوعية مثل التي ذكرتها في الفِقرات السابقة، ولا يمكن أن أهمل الدور المشرّف لبعض الدول تجاه هذه القضية مثل جنوب أفريقيا، وكذلك الدور العُماني -الذي يمثلني ويمثّل كل عُماني- المتمثل في مواقف الجانب الحكومي لسلطنة عُمان وتفاعل الشعب العُماني تجاه القضية الفلسطينية عموما وقضية حرب غزة حاليا الذي يعكس تجربةً -سجّلها التاريخ وأوثق رباطَ شواهدها- في النضال وعدم التضعضع لأيّ معتد وظالم؛ لتُسجّل سلطنة عُمان -حكومة وشعبا- مواقفها الثابتة لقضايا الإنسانية عموما وقضايا الأمة خصوصا. تبقى هذه المعادلة فعّالة لدى جميع الشعوب الحرّة صاحبة الحق المتمسكة بعناصر المعادلة وأهمها الإيمان ومعانيه التطبيقية، ولا أجد -في عصرنا- أقدر من غزة وأهلها في تحقيق هذه المعادلة رغم كل التحديات المؤلمة.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني