مصانع إنتاج الكفاءات العمانية لمستقبل التكنولوجيا المتقدمة
من المسلمات الآن، أن التكنولوجيا المتقدمة وتوطينها تعد من أساسيات مستقبل سلطنة عمان، فكل مناحي تنميتها المتجددة، وطبيعة اقتصادها الجديد ستعتمد على التكنولوجيا عامة، والدقيقة خاصة، وقد أوضحنا في مقالنا الأخير المعنون باسم «الاقتصاد العماني الجديد.. وجيله الوطني التكنولوجي/ التقني» خطط السلطنة في إقامة اقتصاد جديد قائم على الطاقة النظيفة، وكذلك مسارات نهضتها المتجددة المعاصرة، وهى تعتمد على التكنولوجيا والتقنية، حيث تسعى عُمان الى أن تصبح دولة يعتمد عليها في أمن إمدادات الطاقة النظيفة عالميا، وتحوز على كل مقومات التفوق فيه سواء من حيث الموارد الطبيعية، والموقع الجغرافي لتصديره الآمن، أو من حيث علاقاتها الدولية والإقليمية المتجذرة في الاستقرار، والثقة والاطمئنان على كل المصالح الأجنبية على أراضيها، وأكدنا فيه على أهمية وجود استراتيجية وطنية قابلة للتطبيق لتأهيل الكفاءات الوطنية للتنمية والاقتصاد، ولما تعمقنا في البحث حول آفاق هذا المستقبل الجديد، وحجم التنافس الإقليمي، ارتأينا التأكيد في مقال جديد على 4 مسائل جوهرية هي:
- الحاجة إلى اهتمام استثنائي بمواكبة التقدم التكنولوجي والعلمي باعتباره قاطرة الاقتصاد العماني الجديد، ومسارات المنافسة الإقليمية.
- أهمية وطنية عاجلة لتوطين التكنولوجيا المتقدمة، وتكوين قاعدة واسعة من الكوادر الوطنية في التخصصات النوعية الدقيقة في علوم التكنولوجيا وتطبيقاته المختلفة، وانعكاساته في مختلف المجالات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والتعليمية والتنمية.
- أهمية وجود صندوق، يكون من بين أهم أهدافه تطوير التعليم من خلال توفير الفرص التعليمية، كالمنح والبعثات الدراسية وتطوير البنية الأساسية التعليمية داخل الجامعات.
- تطبيق القيمة المحلية المضافة على شركات التكنولوجيا الكبيرة التي أصبحت تستثمر في السلطنة على المدى الطويل، بحيث يمكن من خلاله صناعة الخبرات والكفاءات العمانية.
حاولنا أن نبحث اجتهادا عن المؤسسات التي أنيط بها المسؤولية الوطنية لصناعة جيل التكنولوجيا والتقنية المستقبلية بعد فشلنا في الحصول على معلومات إعلامية عامة من مصادرها، وانتظرناها لأكثر من شهرين، وقد خرجنا من هذا الاجتهاد برؤية عامة تضعنا على مسارات التناغم العماني مع التحولات نحو التكنولوجيا والتقنية، لكنها لا تضعنا أمام الشق الثاني، وهو الأهم كذلك، وهو تأسيس الجيل التكنولوجي المتقدم للاقتصاد الجديد ومسارات الدولة المعاصرة التي حددناها في مقالنا السابق، ولم نجد هذه الاستثنائية بهذا الملف في عملية البحث، وحتى توطين التكنولوجيا والتقنية ربما نأتي متأخرين، ورغم ذلك يحتم التشديد على مسار التسريع، وعدم جعل قضية تأسيس الجيل التكنولوجي والتقني ضمن السياقات الاعتيادية لجهود جذب استثمارات شركات التكنولوجيا والتقنية العالمية، بل الاستثنائية، لأنها تدخل في أهم مفصل من مفاصل الاستدامة الاقتصادية والتنموية، ولا يتصور أن يكون لدينا اقتصاد هيدروجيني مثلا دون أن يكون لدينا مهارات وخبرات وطنية، فالكفاءات والخبرات الوطنية ينبغي أن تتلازم عملية تأسيس هذا الاقتصاد، وكذلك توجهات البلاد نحو الاستثمار في الفضاء والاستثمار في تقنيات الطائرات المسيرة، وسنأخذ أمثلة توضيحية تبرز مسألة التشديد سالفة الذكر.
المثال الأول: التوقيع على مذكرة تفاهم مع شركة سيليستا كابيتل الأمريكية المتخصصة في مجال تقنية المعلومات والاتصالات، هي شركة رائدة، وستقيم مركزا لعمليات التصنيع والتجميع في السلطنة، وكذلك تقديم الدعم في مجال تصنيع واختيار حلول تقنيات الطائرات المسيرة عن بعد «الدرون» للأغراض الأمنية، وإنشاء مركز لتعدين البيانات وتقنيات الجيل الثالث للويب في منطقة الدقم الاقتصادية، ومجالات أخرى مهمة.. إلخ، وهنا تساؤلان: هل اتفقنا مع هذه الشركة على تأهيل جيل تكنولوجيا/ تقنيا عمانيا كقيمة محلية مضافة لاستثماراتها في السلطنة؟ وما هي خطط توطين مثل هذه التكنولوجيا؟ قد لا يكون جذب مثل هذه الاستثمارات النوعية هدفا وطنيا خالصا، ما لم يقترن مع قضايا مثل تكوين قاعدة واسعة من الكوادر الوطنية تعمل إلى جانب الخبرات العالمية، ولا ينبغي أن يكون ذلك تلقائيا، وإنما منصوص عليه ضمن اتفاقيات جذب الاستثمارات الأجنبية، ويمكن اعتباره كنهج أصيل، ومن ضمن منظومة القيمة المحلية المضافة للاستثمارات الجديدة المحلية والأجنبية، ففي كل مشروع استثماري مثل هذه المشاريع، ينبغي أن نحدد الكم والنوع اللازمين لمستقبل البلاد من الكفاءات الوطنية في المجالات التكنولوجية والتقنية.
ولنا تصور لو كانت قضية تكوين الخبرات التكنولوجية والتقنية العمانية ضمن مذكرة التفاهم التي تم توقيعها مع الشركة الأمريكية، فكم من متخصص عماني سيتم صناعته في إطار هذه الشركة فقط ؟ فمجالاتها الاستثمارية في بلادنا متعددة وعميقة ودقيقة في التكنولوجيا والتقنية، فاستفادة السلطنة من هذه الشركة متعددة وعميقة، فما مدى اعتدادنا بهاجس مستقبل التوطين وصناعة الكفاءات العمانية المتخصصة والماهرة؟ وهذا متاح إذا ما تصدرت القضية سلم أولوية جذب الاستثمارات التكنولوجية والتقنية، ولن تكون عائقة في قضية الجذب، فبلادنا جاذبة في ذاتها، وفي امتيازاتها الممنوحة لها، وفي كونها بوابة مستدامة لأسواق إقليمية.
المثال الثاني: إقامة شركة هايدروم العمانية لقيادة تأسيس الاقتصاد الهيدروجيني الجديد، إلى أي مدى هي مهتمة بقضية تأسيس قاعدة كبيرة من كوادرنا الوطنية في مجال تقنيات هذا النوع من الاقتصاد الذي سيشكل بديلا مضمونا ومستداما لاقتصادنا النفطي؟
المثال الثالث: المركز الوطني للفضاء والتقنية، وقد تمت إقامته عام 2020، والتساؤل نفسه يطرح هنا حول الكوادر الوطنية لهذا المستقبل الواعد، والمتعدد الأغراض للسلطنة، والتساؤل هنا ليس عن وجود خطط لتأهيل الكفاءات الوطنية، وإنما مدى استثنائية التأهيل، علما بأن المركز يدرج من ضمن الهيكل التنظيمي لوزارة النقل والاتصالات، ويتبع الوزير مباشرة.
المثال الرابع: استثمار جهاز الاستثمار العماني في شركة كروسو الأمريكية لتقنيات الطاقة، وهي خطوة نموذجية، وفي المسار الصحيح لتوطين التقنيات الحديثة في القطاعات الواعدة اقتصاديا، لكن الهاجس هنا دائما، يكمن حول قضية تزامن جذب مثل هذه المشاريع الاستراتيجية مع تأسيس جيل الوطن التكنولوجي، فلابد من التأكد من هذا التزامن من جهة، والحرص على التأهيل النوعي والكمي في التكنولوجيا العميقة من جهة ثانية.
ومهما كانت الإجابة على التساؤلات في تلكم الأمثلة المختارة، فإننا نستنهض هنا الدور الاستثنائي لهذه المؤسسات في مجال الرهانات على الجيل التكنولوجي والتقني العماني، فله من الأولوية الوطنية بكل حمولاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، بل والوجودية في إطار العالم الجديد الذي يتأسس على تكنولوجيا المستقبل، وقد قطعت فيه بعض الدول الإقليمية أشواطا متقدمة، ضربنا في المقال السابق مثالا صغيرا لدولة خليجية، فمن بين 1500 يعملون في وكالتها للفضاء الخارجي، أكثر من 50% مواطنون، وهذه مثالية عالية في الاستثنائية التي تقف وراء كتابة هذا المقال كتتمة لمقالنا السابق، والمثال سابق الذكر ما هو إلا نموذج واحد من عدة نماذج تعكس السباق الخليجي نحو توطين التكنولوجيا المتقدمة، وأن يكون وراءها قيادة وطنية مستقبلية.
وكل السياقات سالفة الذكر تطرح التساؤل التالي، هل قضية تأسيس جيل تكنولوجيا المستقبل لضرورات التنمية والاقتصاد في السلطنة، ينبغي أن تكون ضمن استهدافات المؤسسات المعنية بكل مجال تنكولوجي/ تقني أم يستوجب إقامة هيئة وطنية خاصة بهذا الملف؟ نقترح إقامة هيئة وطنية عليا تعنى بهذا الملف، عوضا أن يكون كل قطاع تكنولوجي تختص به دائرة داخل وزارة، أو مركز يتبع وزير.. فهذه المستويات الإدارية لا تنم عن الأهمية الوطنية الملحة لتأسيس الجيل الوطني التكنولوجي والتقني، وهى تعكس لنا قضية الاستثنائية التي يحمل هاجسها هذا المقال.
كما نقترح مجددا إقامة مركز وطني للدراسات والبحوث الاستراتيجية، وأول أعماله يكون إقامة ندوة علمية بعنوان «التكنولوجيا: التأثيرات والتحديات والمستقبل»، للكشف عن حجم التحديات «الوجودية» للدول في ظل الثورة التكنولوجية التي تسابق سرعة التفكير نفسه، وتكون توصياته موجها قانونيا للمؤسسات المتخصصة لتحضير البلاد للمستقبل التكنولوجي المتقدم، كما أننا بحاجة للقيام بتخطيط علمي منظم قائم على المعرفة والتنبؤ بالمستقبل واستشرافه، وتوخي مفاجآته ورصد احتمالاته، وتوظيف البحث العلمي لخدمة قضايا المجتمع، وتقديم الرؤى وطرح الخيارات والبدائل لأصحاب القرار.
د. عبدالله باحجاج كاتب عماني مهتم بالشأن الخليجي والتغيرات الاجتماعية والسياسية التي تطرأ عليه