مشهد النظام السياسي .. هل لتسويغ الحقل أم لتوسيعه؟

05 سبتمبر 2021
05 سبتمبر 2021

يذهب الفكر السياسي؛ كما ينظّرُ له، وكما يؤكده الواقع من خلال الممارسة؛ إلى استحضار مجموعة من العوامل الداعمة، والذاهبة به إلى جميل العطاء والتأثير، ومن هنا يستلزم الأمر أن تكون محورية هذا الفكر سياسية، وعطاؤه سياسيا، ومآلاته سياسية؛ وغاياته سياسية؛ ولو بنسب متفاوته؛ لضمان استمراريته وبقائه؛ لأنه الحاضنة؛ ولذا فالتشبث بالسياسة في رسم معالم البرامج، والسياسات التنظيمية، هي من الضرورة بمكان، ولن يشق هذا الأمر على أحد، لأنه في خدمة التنمية بشموليتها المختلفة، والسياسة بهذه الصورة لن تخلق الرعب والقلق، بقدر ما تذهب إلى إشاعة الأمن والاطمئنان، ووضوح الرؤية، ومعرفة الأدوار والمسؤوليات لكل أبناء الدولة، وهذا ما يحمل النظام السياسي الكثير من المسؤوليات تجاه تحقيق هذه الغايات كلها.

ومن هنا أيضا؛ تأتي أهمية أن تكون هناك مؤسسات لتجسير الهوة بين الطرفين، ويأتي في مقدمتها؛ كما هو معروف؛ السلطة التشريعية، ومؤسسات المجتمع المدني، وعلى هذه المؤسسات الدور الكبير، ليس لتبرير ممارسات الأنظمة السياسية، ولكن لإيجاد مناخ عقلاني من الحوار الآمن، والهادئ بين الطرفين، فالمحصلة النهائية هي الوصول بالوطن الكبير إلى جعله ملاذا آمنا مستقرا، يتسع للكل، ويحزن كثيرا عندما يحيد فرد واحد فقط من أبنائه عن جادة الطريق؛ بقصد أو بغير قصد.

يتعزز النظام السياسي، وتثبت أركانه كلما استطاع أن يتمدد من خلال خلق رؤى جديدة فاعلة في مشروع التنمية، ولذلك تأتي المدن الحديثة بأنظمتها الجديدة المعبرة عن حداثة التنمية وتجددها، والتوسع الأفقي والرأسي؛ في المؤسسات المركزية «مؤسسات الدولة المحورية» وفي المؤسسة الوسيطة «مؤسسات المجتمع المدني» مع وضوح آليات عملها، واستنباط منافذ فاعلة في التسويق والاستثمار من خلال أسواق فاعلة، ووسائل اتصال وتواصل أكثر حداثة، وحرص أكبر وأكثر على دور المعرفة في تحقيق كل مشروعات التنمية، فكلما تحقق من هذا الأكثر، كان ذلك أدعا وأبقى وأدوم في تعزيز النظام، وتميزه، وهذه كلها ممارسات تتجدد بالمعرفة والخبرة، وبارتفاع سقف الأمانة والمسؤولية والصدق لدى أعضاء النظام، حيث تظل نتيجة المعادلة الرياضية (1+1 =2) مطلقة، ولا تقبل الأخذ والرد.

نأتي هنا إلى الإجابة عن السؤال المطروح في العنوان: «مشهد النظام السياسي .. هل لتسويغ الحقل السياسي أم توسيعه؟» ويمكن القول هنا: إن المسألة بها من التعقيد ما بها، ولذلك فهي تعتمد كثيرا على مجموعة الممارسات التي يقوم بها النظام السياسي في أي دولة على حده، ولكن المعتمد؛ وفق الرؤية المنطقية؛ أن مشهد النظام السياسي لا يجب أن يوجد مسوغات لبقائه، ومشروعيته، لأنه لو أسقط نفسه في هذا المستنقع فإنه يقينا سوف يحيد عن الرسالة السامية التي يتبناها في منظومة عمله وهي الوصول بالدولة إلى مصاف الدول المتحققة بفعل إنجازها الحضاري الرفيع، وهو الإنجاز الذي يحقق للدولة الأمن والاستقرار، وتحقيق النسب العالية من النمو والازدهار، دون أن يلحق ذلك أي ضرر كان بمجموع السكان، أو أي إخفاق بنمو مجالات التنمية الشاملة، فاتخاذ المسوغات لأي عمل كان؛ من شأنه أن تتداخل فيه صدامات المصالح المختلفة، سواء المتعلقة بالسكان، أو تلك المتعلقة بالعلاقات القائمة بين النظام وغيره من الأنظمة الدولية، وهذا الصدام إن حصل سوف يفضي إلى كثير من التداعيات الخطيرة على المستويين المحلي والدولي، ولن يجلب الأمن والاستقرار والتنمية الشاملة، بقدر ما يؤزم المواقف، ويخلق بيئات لنزع الاستقرار، ويدع قادة النظام السياسي في حرج شديد في الداخل والخارج على حد سواء، ولذا تعمل الأنظمة المعتدلة على التوفيق بين المسوغات، والمتطلبات الداعمة للبقاء الآمن، والاستمرار المتواصل للوصول إلى الغايات الكبيرة للتنمية في البلد، أما في حالة التوسع - والمقصود به التوسع الآمن في التنمية - وهو الهادف إلى السعي الحثيث في إيجاد منافذ متعددة؛ يأخذ منها الشق الاقتصادي في بعديه الاستثمار والتسويق النصيب الأكبر؛ فهذا أمر مطلوب وحيوي ومهم، لأن التوسع يتيح خيارات كثيرة أمام قيادة النظام، ويضعه أمام رؤية شاملة، يستطيع من خلالها أن يتمدد في بعديه المادي والمعنوي، ويعفيه من حرج التضييق الذي لا يضع له سوى خيار البقاء أو الانسحاب، وهذا ما لا يجب أن يكون في ظل عوالم تتجاذبها أطراف سياسية كثيرة، كلٌّ يسعى إلى تحقيق مصالحه وتنفيذ أجنداته الخاصة «تنازع القوى».

يبدو؛ ومن خلال هذه المناقشة أعلاه؛ أن المسألة السياسية في بعدها المعرفي، والتوظيف السلوكي لها، أنها تنقسم إلى جانبين مهمين؛ هما: الجانب الطبيعي، وهو المتمحور حول رغبات الإنسان الفطرية، وطموحاته، وما يود تحقيقه على المستوى الشخصي المطلق؛ وأما الجانب الآخر فهو المتمحور حول العلاقة الثنائية التي تربط الإنسان بمحيطه القريب أو البعيد، ولأن هذه العلاقة في بعديها تحتاج إلى كثير من الوسائل، والنظم والآليات فإنها تتحرر من الحالة الطبيعية التي عليها الفرد، إلى الحالة السياسية المنظمة لهذه العلاقة، ربما يسأل سائل هنا: ولماذا لا يطلق عليها الحالة الاجتماعية، أو الثقافية بدلا من الحالة السياسية؟ فأقول: إن الحالة الاجتماعية لا تخرج كثيرا عن الحالة الطبيعية، فارتهان بقاء الاجتماعية هو تلبسها للحالة الطبيعية التي يعيش عليها المجتمع، وهي القائمة على التكاتف والتعاون بلا مقابل، أو ما يطلق عليه حديثا مصطلح الـ «العقد الاجتماعي» وأما الحالة الثقافية فهي مجموع نتاج كل السلوكيات، والمكتسبات التي يتحصل عليها الفرد من مغذيات الاجتماع والسياسة، وبالتالي؛ ووفق هذا التقييم تظل المظلة السياسية هي الحاضنة الرئيسية لكل المنظومة في أبعادها الأربعة: الاجتماع؛ الثقافة؛ الاقتصاد، الدين، وهي الأبعاد التي تتفاعل فيما بينها، لتخرج لنا في النهاية منتوجا منظما، ومهذبا، ووفق أسس واضحة، وآليات معتمدة، وهو ما تصنعه السياسة في مجموع الممارسات، والاجتهادات، فالسياسة هي مشروع عمل منظم، يقوم على آليات كثيرة من التنظيم للعلاقات، ومن تقييم للسلوكيات، ومن وضع الحلول للقضايا والمشكلات، ومن ردع للتجاوزات، ومن وضع السيناريوهات لما هو متوقع أن يحدث في ظل تنامي الأحداث والقضايا، سواء في داخل الدولة أو خارجها، فالشمولية التي يتضمنها البعد السياسي في النظام، غيرها تماما المتعلقة بالجانب الاجتماعي، أو الثقافي، أو الاقتصادي؛ فهذه كلها تظل محدودة التأثير، أو تشكل جانبا معينا من المنظومة السياسية المتكاملة، بمعنى آخر أنها مكملة للمشروع السياسي الكبير، المعبر عن الدولة بهياكلها وأنظمتها، وبتأثيرها الحضاري في المجتمع الدولي.

يمكن النظر أيضا إلى مصطلح «الاعتماد الأناني» على أنه من ألد الأعداء لأي نظام سياسي، وفحوى هذا المصطلح هو أنه قائم على تحقيق المصالح الذاتية والشخصية على حساب المجموع، وهذا من شأنه أن يحدث الكثير من التشوهات الخلقية في آليات عمل الأنظمة السياسية، ولذا يجابه هذا النوع من الممارسات بالكثير من سن القوانين والنظم والآليات للحد من استفحاله وانتشاره بين مجموع السكان، حتى لا يعيق مجموعة الجهود التي يقوم بها النظام السياسي في أي بلد، ولعلنا نقرأ كثيرا عن ضعف بعض الأنظمة، وعدم قدرتها على تلبية متطلبات السكان من التنمية، أو عرقلة الكثير من الجهود المبذولة، وذلك بسبب توغل هذا النوع من الفهم لدى كثير من الناس، فمفهوم «أنا ونفسي؛ والبقية في الطوفان» ينظر إليه على أنه من أسوأ القناعات المتولدة لدى البعض، وهو نداء فطري قبل كل شيء، ولكنه مستنكر في الفهم السياسي، ويواجه بسلطة القانون، ومن هنا يستوجب الوقوف ضده ومحاربته بكل الوسائل الممكنة، وفي مقدمتها تفعيل الأنظمة والقوانين، وعدم التهاون مطلقا، ولو في حالات شاذة أو استثنائية، حتى لا تكون مقدرات الأوطان حالة مشاعة، ومتاحة لأي من يريد أن يعبث بها، أو تستحوذ عليه أنانيته، فلا يرى في الوطن غير مكسبه الخاص، وفقط،.

يقول جون إهرنبرغ؛ في كتابه؛ المجتمع المدني - التاريخ النقدي للفكرة - مترجم - ما نصه: «السياسة هي الحل الوحيد لوأد الفساد، والمواطنة هي فقط ما يبعد الناس عن الاشتغال الأناني بأنفسهم الذي كان السبب وراء انحطاط الحاضرات القديمة العظيمة».