مسقط وتفكيرها الاستراتيجي الجديد نحو نيودلهي
إلى أي مستوى ينبغي أن يكون عليه مستقبل العلاقات العمانية الهندية ؟ يطرح هذا التساؤل بإلحاح الآن على خلفية مجموعة معطيات ثابتة ومجمع عليها في علاقات البلدين التاريخية، وفي ضوء ما كشفته نيودلهي مؤخرا عن قدرات استثنائية نوعية تحقق بها السبق الإقليمي، وتدخل ضمن الكبار الخمسة في العالم، لذلك، نرى على مسقط أن تحمل هاجس هذا التساؤل أكثر من نيودلهي، رغم أن هذه الأخيرة تدرك أن طموحاتها المستقبلية العالمية ستتعزز بمدى شراكتها مع مسقط، ومن أجل ذلك هي تعمل الآن على تأسيس منافع تجارية وأمنية وعسكرية جديدة مع مسقط، وتشهد البلدان هذه الأيام زيارات متبادلة على عدة مستويات، ويقول موقع ويون نيوز الإلكتروني إن مسقط الشريك الدفاعي الأقرب للهند في منطقة الخليج العربي، وقاعدة مهمة لمصالحها الاستراتيجية، من هنا يطرح التساؤل سالف الذكر باحثا عن الماهيات لمستقبل علاقات مسقط مع نيودلهي، وهي ماهيات ينبغي أن تبحث من خارج السياقات الاعتيادية للتفكير الاستراتيجي العماني.
فنيودلهي تظهر الآن كدولة تتوفر فيها ما تحتاجه مسقط لمواجهة تحديات غير تقليدية وغير مسبوقة وملحة، سنركز أولا على المعطيات الثابتة والمجمع عليها في علاقات مسقط ونيودلهي والتي يمكن أن تفتح الأبواب الهندية للمصالح العمانية النوعية، ومن ثم سنعطي أمثلة على التعاون الجديد الذي ينبغي أن يشكل الشغل الشاغل للتفكير الاستراتيجي الجديد لمسقط، وأبرز هذه المعطيات:
- تجذر العلاقات العمانية الهندية وعمقها عبر الآلاف من السنين، وارتباطها بعامل جغرافي مشترك - المحيط الهندي، وبحر العرب - وديموغرافي متغلغل في كلا البلدين.
- حالة الثقة المستدامة بين قيادتي البلدين.
- انتقال العلاقات إلى شراكة استراتيجية في مختلف المجالات، وبالذات في المجالين العسكري والأمني.
- حجم المصالح الهندية الضخمة في السلطنة.
وتلكم المعطيات تشكل الأرضية المواتية لأية انطلاقة حديثة للعلاقات بين البلدين، بل ينبغي أن يدفع بها انطلاقا منها، وسيكون حديثنا عن الجانب العماني أكثر من الهندي مع الإشارة إليه عند دواعي التحليل، وإذا لم توظف الآن تلكم المعطيات لخدمة المصالح العمانية الاستراتيجية الحديثة، فقد لا تتوفر لاحقا، فمسقط ونيودلهي تجدان نفسيهما الآن في إطار إقليمي متغير بالنسبة لمسقط، وإطارين «إقليمي وعالمي» متغيرين لنيودلهي، وفي حالة سباق مع الزمن في تشكيل تحالفات بمفاهيم برغماتية غير مسبوقة، وتجديد مفهوم القوتين الخشنة والناعمة بعد تحييد مفهوم القوة الخشنة التقليدية من موازين القوى اثر المنافسة المحمومة في تطوير تقنيات الطائرات المسيرة، وفي استخدام الفضاء الخارجي.
والنموذجان الأخيران سيشكلان الرؤية التحليلية لهذا المقال للاستدلال على حجم وماهية النقلة النوعية للعلاقات العمانية الهندية في العالم المتغير بكل شخوصه الإقليميين والدوليين، وتحديات ذلك عليهما كقوتين بحريتين، وبالتالي ما سنطرحه هنا ما هو إلا رؤية صغيرة لحجم منافع أكبر ينبغي أن تنفتح لمسقط الآن، مقابل تعظيم منافع هندية كربط أكبر الموانئ العمانية بالموانئ الهندية، ومنحها مزايا تفضلية تطالب بها لتعزيز حركتها التجارية، ومنحها كذلك امتيازات وتسهيلات متعاظمة لسفنها البحرية العسكرية مثل استخدام ميناء الدقم وحوضه الجاف وإصلاح سفنها فيه.. الخ.
فلو أخذنا الطائرات المسيرة مثلا، فإن نيودلهي ستتحول إلى مركز إقليمي لصناعة الطائرات المسيرة بتفوق تقني متقدم، بعد دخولها في شراكة أمريكية لتطوير «تقنيات» الطائرات المسيرة، كإنتاج مشترك، ومن تصديرها إلى حلفاء واشنطن في المنطقة، وتكمن أهمية هذه الخطوة في ضوء ما تقوله وزارة الدفاع الأمريكية إن مواجهة دول المنطقة خطر الطائرات المسيرة يتوقف على مدى متابعة تطوير تقنياتها المتسارعة، من هنا نفسر دوافع الشراكة الأمريكية الهندية في تطوير التقنيات والتصنيع حتى لا تستفرد بهما دول إقليمية كإيران التي وصلت فيها إلى مستويات متقدمة، تقلب فيها موازين القوة التقليدية.
وهنا يقود التفكير الاستراتيجي العماني إلى تقاطع مسقط مع توجهات الشراكة الهندية والأمريكية للطائرات المسيرة، والخيارات متعددة، إما دخولها كطرف ثالث، وهذا يمكن أن يحدث في سياقات التفاهمات الاستراتيجية بين الدول الثلاث التي تربطهما رؤية استراتيجية عميقة وطويلة الأجل، تجعل من مسقط تمنح واشنطن ونيودلهي تسهيلات أمنية وعسكرية متعددة الأوجه ولطويل الأجل، وهنا البرغماتية التي ينبغي أن تدفع بمسقط إلى أن تكون شريكا ثالثا في مجال تطوير تقنيات الطائرات المسيرة وتصنيعها، أو الاكتفاء بجعل الاستفادة التقنية والتكنولوجية للطائرات المسيرة وشرائها في صلب شراكتها المحدثة مع نيودلهي، ويمكن أن تكون الموانئ العمانية بوابة مضمونة لهذا النوع من التصدير، وهذا لا يقلل من أهمية دخول مسقط في الاستثمار في تقنيات الطائرات المسيرة مع إحدى الشركات الأمريكية، بل سيكون تعزيزا وتعددا لهذا المسار الوجودي الحديث، وفتح قاعدة واسعة لتأهيل الكوادر والخبرات العمانية.
والمثال الثاني، حاجة مسقط للفضاء الخارجي لدواع متعددة بالأخص الأمنية والاقتصادية بعد فشل الشركة البريطانية في إطلاق أول قمر صناعي عماني، فنيودلهي قد أظهرت للعيان مهاراتها الفائقة في اكتشاف الفضاء وإطلاق أقمار صناعية ليس أقل من أوروبا وأمريكا وروسيا والصين «خبراء» وبتكلفة أقل بكثير من الدول الأوروبية والأمريكية «خبراء» ومؤخرا أسقطت الهند قمرا صناعيا بصاروخ فضائي لتصبح الدول الرابعة في العالم التي تمتلك هذه القدرات، وهذا ما يضع الهند في ناد يضم أمريكا وروسيا والصين حصرا «خبراء» وعن هذا التطور، يقول مودي رئيس وزراء الهند أن بلاده أصبحت بذلك رابع دولة لديها قوة فضائية ذات قدرات رادعة.
وهنا مجال نوعي للشراكة العمانية الهندية الحديثة، حيث يمكن لمسقط الاستفادة من إمكانيات منظمة التطوير والأبحاث الهندية التي استخدمت مؤخرا صاروخا مضادا للأقمار الصناعية لحماية أصولها الفضائية، وقد تم تصنيعه بتكنولوجيا هندية وباستخدام قدرات محلية «مصادر» وتكمن الاستفادة العمانية هنا في تأسيس جيل عماني في مجالات الفضاء على ايدي الخبرات الهندية، والتعاون العميق في التصنيع مع الهند، ولا يمكن لمسقط أن تتخلف عن الركب الفضائي في ضوء السباق الإقليمي / الخليجي نحو الفضاء، وهذا قد أصبح الآن معلوما بالضرورة الوطنية، وقد اخترقته دول خليجية، وذهبت فيه إلى مستويات كبيرة.
وينبغي أن توظف مسقط كل وسائلها وأدواتها السياسية والدبلوماسية والاقتصادية للاستفادة من التكنولوجيا والتقنية الهندية العميقة، ومساعدتها في تشكيل جيلها الجديد في مثل هذه المجالات، فالكثير من الدول تتمنى أن تكون لها علاقات ممتازة وتاريخية وذات ثقة مع نيودلهي حتى يمكنها الاستفادة من إمكانياتها المتقدمة، وستجد نيودلهي نفسها تنفتح للتعاون مع مسقط ليس فقط من منظور علاقتهما التاريخية، وإنما المستقبلية كذلك فللهند شراكات استثمارية ضخمة في سلطنة عمان، إذ يبلغ عدد شركاتها التي تستثمر في السلطنة حتى عام 2020 «4» آلاف و «766» شركة برأسمال 45. 32 مليار دولار، تبلغ مساهمة الجانب الهندي 54. 10 مليار دولار، كما يبلغ حجم التجارة بين البلدين أكثر من 5 مليارات و381 مليون دولار، وتسعى نيودلهي إلى إبرام اتفاقية تجارية تفضيلية مع مسقط لتعزيز العلاقات الاقتصادية معها، وعلى وجه الخصوص خفض الرسوم الجمركية على منتجات محددة.. وهنا أكبر الاستدلالات التي تجعلنا نطالب بالشراكة العمانية الهندية في مجالات تطوير الطائرات المسيرة والفضاء كنموذج لبقية المسارات الحديثة.
ومطالبتنا تندرج من منظور إحداث التوازن في منظومة المنافع والمصالح الثنائية بين البلدين، فمسقط بالنسبة لنيودلهي خيار استراتيجي أمني ودفاعي، ودعم لوجستي لطموحاتها العالمية، وتراهن على استثماراتها الكبيرة في المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم، وعلى مقومات هذه المنطقة المتعددة الاستخدامات.. وكذلك تصدير منتجاتها للعالم، فالدقم تفرض ذاتها على الخريطة الاقتصادية العالمية بموقعها المطل على بحر العرب والمتصل بالأسواق الناشئة، وربطها بين قارات العالم آسيا وأفريقيا وأوروبا، بما فيها الأمريكيتان.. فمقابل كل ذلك، ينبغي أن تكون نيودلهي بنفس الأهمية الاستراتيجية لمسقط، وهي خيار مماثل وممكن، فلماذا تذهب مسقط بعيدا في تحقيق مساراتها المعاصرة، ونيودلهي أقرب لها من غيرها.