مسقط وتصفير المشكلات العربية
منذ الكشف عن زيارة جلالة السلطان هيثم بن طارق ـ حفظه الله ورعاه ـ إلى جمهورية مصر العربية التي اختتمت يوم الاثنين الماضي، وأي متابع للأحداث الإقليمية وسياقاتها الزمنية والسياسية سيتجه تفكيره فورا إلى تقدم الدور العماني في التقريب بين مواقف القاهرة وطهران، وسيعلي من شأنه كونه يأتي هذه المرة على مستوى القمة السياسية، وبالتالي ينبغي إطلاق التفاؤل، وهذا منطوق السياقات الواضحة الآن، وستتجلى وضوحها أكثر كلما نتعمق في التحليل، رغم ما في الزيارة من ملفات ثنائية ذات طابع اقتصادي بهدف تعزيز العلاقات الاقتصادية المتنامية بين البلدين.
وقد يضيف الإعلان عن زيارة جلالته عشية القمة العربية «32» في المملكة العربية السعودية بعدا إضافيا على ذلك الاستشراف التحليلي، إذ لا يمكن لأي محلل أن يتجاهل السياقات للأحداث، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار ما بين مسقط والرياض من تفاهمات استراتيجية عميقة تبني عليها شراكة نفعية عميقة بين البلدين، قائمة على الثقة المتبادلة، وصل مستواها إلى اعتبار الرياض ومسقط وسيطا موثوقا به، وفي الوقت نفسه، ما يجمع مسقط بالقاهرة وطهران من علاقات متجذرة ومعاصرة عالية الثقة.
ومن بين أهم هذه السياقات التي يستند عليها الاستشراف، استضافة مسقط لقاء مصريا وإيرانيا قبل الإعلان عن زيارة جلالته للقاهرة، وقبلها كذلك، أعرب حسين أمير عبداللهيان وزير الخارجية الإيراني عن أمله في أن تشهد العلاقات الإيرانية المصرية انفراجة جادة، في وقت كانت أنباء تتحدث عن لقاءات سرية بين القاهرة وطهران في بغداد، من هنا يصبح التساؤل الآن متى ستعود العلاقات الدبلوماسية بينهما، وإعادة فتح السفارات؟ الزيارتان لجلالته للقاهرة والمرتقبة لطهران تفتح كل الاحتمالات الإيجابية الكبيرة وتجعلها واردة.
والتفاؤل الآن في الدور العماني بزخمه السياسي الرفيع مرده كذلك إلى طبيعة العلاقات التاريخية بين مسقط وكل من القاهرة وطهران كل على حدة، ويمكن أن نقدم هنا الكثير من الاستدلالات، ولن نغوص في التاريخ وإنما سنكتفي بالإشارة إلى أهم مفصلين خالدين، هما، وقوف مسقط مع القاهرة في وقت تخلى عنها كل العرب عقب توقيعها اتفاقية كامب ديفيد 1978، والآخر وقوف طهران مع مسقط في بداية حكم السلطان الراحل قابوس بن سعيد - طيب الله ثراه -
وتستفيد دول المنطقة خاصة، والعالم عامة من العلاقات العمانية الإيرانية، حيث توظفها مسقط لصالح الاستقرار والسلام الإقليمي والعالمي، فقد تجلى ذلك في نزع فتيل أزمة بين طهران والغرب، والتوصل إلى اتفاق للبرنامج النووي الإيراني عام 2015، وكذلك جعل مضيق هرمز الحيوي الذي يمر عبره ثلث إمدادات النفط في العالم، آمنا في وجه الملاحة الدولية، وعند اندلاع التوترات بين طهران والغرب تسارع مسقط إلى حلها، وتتم إزالة المخاطر الملاحية فورا، فلم يتم في يوم ما إغلاق مضيق هرمز.. وهذا ما يجعل واشنطن تعتبر مسقط شريكا إقليميا ودوليا دائما ومهما، وبرز دور مسقط كذلك في اتفاق المصالحة التاريخي بين الرياض وطهران، والذي بسببه يتم الآن تغيير الخارطة الجيوسياسية الإقليمية، ولنا تصور هذه الخارطة بعد المصالحة المصرية الإيرانية؟.
والمنطقة كلها تتجه نحو المصالحات، وقد أحسنت قمة جدة العربية مؤخرا عندما اعتبرت قضية تصفير المشكلات العربية من بين أهم اهتماماتها الراهنة، ونجاحها سيكون مرهونا بتولي مسقط قيادة عملية التصفير بحكم خبرتها الطويلة، وقبولها من الكل، فهي الوحيدة المؤهلة للقيام بهذا الدور، وهي مهمة سيتوقف عليها نجاح إصلاح الجامعة العربية، وتحويلها إلى تكتل عربي قوي في مواجهة التكتلات والتحالفات العالمية التي تتشكل ببرغماتية المصالح الاقتصادية في تراجع ملحوظ للعامل السياسي.
والتسليم بأهلية مسقط بهذه القيادة العربية لحل المشاكل والأزمات العربية، هو استحقاق قد كسبته نتيجة حيادها الإيجابي الذي التزمت به بصورة مثالية، وكذلك نجاعة وساطتها السابقة والراهنة، بحيث يشكل الحياد الإيجابي والوساطة أهم قوتين ناعمتين تتميز بهما مسقط، فهي الدولة العربية الوحيدة التي ليس أعداء من قبل دول أو كيانات فكرية أو مسلحة، وهي كذلك لم تقف مع دولة عربية ضد أخرى، أو طرف داخلي ضد آخر.. قديما وحديثا، ويكون دورها دائما في الأزمات والمشكلات منحصرا في الثلاثية التالية: التقريب، والتهدئة، وصناعة مساحات مفتوحة ودائمة للحوار بين الفرقاء، لإيمانها بأن الحوار هو الوسيلة الوحيدة للحل، وأن الكل سيلجأ إليها عاجلا أم آجلا، لذلك تسعى إلى صناعتها مع كل الأطراف بل والفاعلين، والحفاظ عليها حتى بعد اندلاع الحرب.
ونجاح تصفير المشكلات العربية هي مهمة عمانية خالصة، ومن مصلحة العرب منحها لمسقط بتفويض كامل، تختار معها من تشاء، ووقت ما تشاء، وهي موجودة الآن في قلبها عبر ثلاثية الأدوار «التهدئة، التقريب، فتح مساحات للحوار ثابتة» وقد قطعت فيها أشواطا كبيرة، كالمشكلات اليمنية والسورية والليبية.. الخ. التوجس هنا من مدى التزام الإرادة السياسية العربية بعد القمة بما اتفقت عليه بعد القمة، ولو كان هناك التزام، فإن التجربة العمانية في حل الأزمات والمشكلات ستعين مسقط في إيجاد حلول للمشكلات العربية، كما أن علاقاتها مع الأبعاد الدولية والإقليمية للمشاكل والأزمات العربية من المتانة والثقة ما يجعلها تخاطبهم ببرغماتية المصالح والمنافع واستدامتها في مرحلة تصفير المشاكلات، بمعنى أن مصالح الكل لن تتضرر، وإنما ستكون مضمونة ليس من مصانع التوترات الدائمة بمدها وجزرها، وإنما من مصانع الاستقرار والسلام الدائمين.
ورغم أننا كنا متفائلين بقرارات تاريخية من قمة جدة على صعيد تحويل الجامعة العربية إلى تكتل عربي قوي، وقد عبرنا عنه - أي التفاؤل - بمقال سابق معنون باسم « لهذه الأسباب نتطلع بتفاؤل لقمة جدة «إلا أن ما خرجت به من نتائج سياسية، وبالذات تصفير المشكلات العربية، ومنع التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للدول العربية، يشكلان المدخل الأساسي لإمكانية قيام تكتل عربي بنظام مؤسساتي جديد، يلعب من خلاله العرب دورا دوليا منافسا للتكتلات الكبيرة التي تقام الآن، وستشكل النظام العالمي الجديد، فهل يمكن أن يكون العرب بلا مشكلات داخلية أو فيما بينها ؟.. إذا نظرنا لحجم المشكلات الراهنة يبدو ذلك حلما، لكن تحقيقه ليس صعبا.. وطبيعة المرحلة الآن نفسها تتحطم فيها المستحيلات وليست الصعوبات، وما يجري في العالم كله الآن يدخل في منظور أن كل شيء الآن ممكنا، وهذه فرصة تاريخية تتاح للعرب الآن، فلا ينبغي تفويتها.