مستقبل المناطق الحدودية بين مسقط والرياض
يمثل إقامة منطقة اقتصادية متكاملة في محافظة الظاهرة نقلة مفاهيمية ذات دلالات سياسية معاصرة، تتناغم مع مفاهيم عالمية ذات بعد إقليمي –سيأتي ذكرها لاحقا- تتأسس الآن بوع سياسي جديد ناجم عن تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، وآفاقها المستقبلية، ويحسب لمسقط والرياض قيادة هذا الوعي في الخليج، وتستفردان بتطبيقاته حدوديا بصورة تدلل على المتغير المفاهيمي في السياسات السعودية من جهة، وعلى الانفتاح العُماني تجاه الرياض خاصة، وكل دول مجلس التعاون الخليجي عامة، مما سيصبح للمناطق الحدودية بين البلدين أهمية متعاظمة في قيادة التنمية والاستقرار وديمومته ليس ثنائيا، وإنما على مستوى المنطقة، وكل دول المنطقة وحتى خارجها تترقب نجاح التجربة الاقتصادية الحدودية بين مسقط والرياض، مما سيكون لنجاحها وانعكاساته على البلدين المتجاورين والشعبين الشقيقين، بداية تحول لاستتباب الأمن والاستقرار في الخليج العربي واليمن على وجه الخصوص.
ووراء هذه النقلة المفاهيمية للرياض ما عبر عنها معالي فيصل بن فرحان وزير خارجيتها مؤخرا، عندما رأي أن بلاده لم تعد تراهن على الاستقرار في دول المنطقة فحسب بل وازدهارها، مستشهدا بدروس الحرب الروسية على أوكرانيا، وفكرة تحويل محافظة الظاهرة الصحراوية المجاورة للرياض، ننظر إليها على أنها تدخل تطبيقا في سياق هذا المتغير المفاهيمي، لكنه، ومهما يكن تأثيره على فكرة الاستفادة من المناطق الحدودية؛ لتعزيز الاستقرار وقيادة الازدهار، إلا أننا ينبغي أن نستحضر هنا نتائج قمتي نيوم 2021، وقمة مسقط 2022، الأولى: أسست قناعة تجاوز الماضي، والانطلاق بمستقبل العلاقات الثنائية بعيدا عن كل الهواجس، والثانية: وضعت النقاط فوق كل الحروف، وتغلب مفهوم مستقبل المصالح المشتركة فوق كل اعتبار سابق أو معاصر، مما شهدنا الكشف عن الكثير من المشروعات المشتركة الأخرى، ولنا في تصريح معالي عبد السلام المرشدي رئيس جهاز الاستثمار العماني أكبر الاستدلالات المعبرة عن النتائج، فقد قال: إن ما تم إنجازه مع الرياض خلال هذه الفترة القصيرة الماضية يفوق ما شهدته 200 عام سبقتها.
والتوجه الآن، جعل محافظة الظاهرة العُمانية ذات نفع مشترك ومستدام، وحاكم لكل المراحل؛ لأنها ستكون مرتبطة بمستقبل اقتصاد البلدين، مما يضفي للحدود ديمومة الاستقرار الأمني، وهذا الاستقرار هو الذي يقود عملية تأسيس المصالح الحدودية الآن، فرغم كل التوترات الحديثة، لم تكن الحدود العُمانية في يوم من الأيام عامل عدم استقرار للجيران، مما يجعلها الآن تقود مسيرة الشراكة التكاملية بين مسقط والرياض، ويجعلها تجربة ملهمة للآخرين، وهذا لا يعني أنها ستمنع نشوب المشاكل المستقبلية، بل يعني أنها ستقود الحياد الاقتصادي، وتجعله في منأى عن تأثير تقلبات السياسة.
وهذا وعي متنام الآن، فما نشهده في إطار الشراكة الإيرانية الروسية الجديدة، ورصدناه كذلك في العلاقات الهندية الجديدة مع الدول والتكتلات الإقليمية والعالمية، تشير كلها إلى تأسيس الحياد الاقتصادي عن أي إشكاليات تاريخية أو مستقبلية، وهكذا ينطلق العالم الجديد نحو إعادة بناء مستقبله، ونراه يمكن أن يكون حاكما كذلك لعلاقات خليجية إيرانية جديدة، فالخلافات التاريخية أو هواجسها ينبغي أن لا تقف عائقا أمام المصالح المشتركة بين الدول، خاصة الحدودية في ضوء أن كل دول العالم قد دخلت في صيرورة زمنية بمفاهيم راديكالية ناعمة، فالهواجس الإيرانية من روسيا مثلا، لم تمنعها من عقد شراكة عسكرية واقتصادية عميقة - قد تناولناها في مقال سابق - مما يعني أن الثوابت التي حكمت العلاقات الإقليمية والدولية طوال العقود الماضية قد أصبحت من الماضي، وكل من يتمسك بخلاف قديم، ويربط تطوير علاقاته بحله أولا، هو كمن يضع العربة قبل الحصان، وسيظل الحصان يراوح مكانه.
والنموذج العُماني السعودي ندخله من ضمن الذهنيات التي تنفتح على المصالح المستقبلية المشتركة، فهي تسير منذ القمتين العُمانية السعودية 2021 و2022 بثقة مستقبلية راسخة، وبمعرفة مآلاتها على البلدين، والاتفاق على إقامة منطقة اقتصادية متكاملة في منطقة الظاهرة هو من بين أهم نتائج الثقة السياسية الجديدة بين مسقط والرياض، وجعل المصالح المتبادلة من بين أهم الأسلحة لمواجهة أي تحديات ثنائية أو جيوسياسية، من هنا تم اختيار محافظة الظاهرة العُمانية لكي تكون أداة ربط جغرافية للمصالح الجديدة بين الجارين الشقيقين، وهي خطوة سياسية واقتصادية ستعزز ديمومة استقرار العلاقات بين البلدين عبر الحدود، وفتح الحدود الداخلية.
ومحافظة الظاهرة العُمانية في الذاكرة التاريخية للمنطقة، تشكل جسرا بريا للعبور من سلطنة عُمان إلى دول المنطقة، وقد عرفت ولاية عبري إحدى أهم ولايات محافظة الظاهرة، بأنها نقطة عبور التجارة إقليميا، والآن يتجدد استحقاقها التاريخي كمنطقة عرفت كذلك بأنها منطقة الحشود العسكرية، وكل هذه الاستدعاءات التاريخية تجعلنا نعظم محافظة الظاهرة من حيث جيوستراتيجتها المستدامة، ومدى الرهانات العُمانية السعودية عليها لقيادة حقبة مستقبلية آمنة في التاريخ المعاصر للمنطقة كلها، ومنها ستفتح جيوستراتيجيات البلدين وبالذات العُمانية التي تتطلع لها المصالح السعودية الكبرى للعبور للبحار المفتوحة، التي من خلالها تطمح الرياض لمركز عالمي متقدم، وهو مخطط له من قبل قيادتها السياسية الجديدة.
والتساؤل الذي ينبغي أن يطرح هنا، هل الجهود التنفيذية للشراكات العُمانية السعودية المعلنة، تمضي قدما بوعي الاستحقاقات الزمنية أم أنها مقيدة ببيروقراطية منعزلة عنها، والزمن هنا العامل الفاعل المنتج للتطورات، فما يمكن تحقيقه الآن، وتحويله إلى منجز يرسّخ المصالح، ويعمق العلاقات، ويجعلها في فلك الديمومة الناتجة عن الثوابت الجديدة ، قد لا تتوفر له الظرفية اللاحقة، وطموحنا نحن العمانيين كان يتأمل أن نشهد الآن التوقيع على اتفاقية المنطقة الاقتصادية المتكاملة في الظاهرة عوضا عن التوقيع على مذكرة التفاهم، وكلنا نعلم الفرق بين الاتفاقية والمذكرة، الأولى ملزمة، والثانية هي خطوة أولى للدخول في الاتفاقية الملزمة.
ربما علينا الآن المطالبة بتسريع إبرام الاتفاقية عاجلا، فمصلحة مسقط والرياض الإسراع في الارتقاء بمحافظة الظاهرة العُمانية كوجهة إقليمية وعالمية في مجال الاستثمار بكافة أشكاله، وجعلها نموذجا لقيادة الاستقرار والأمن بين حدود دول المنطقة، والمساهمة في تنفيذ أولويات البلدين، ولو ركزنا هنا على الجانب العُماني، فينبغي أن يكون معلوما الآن، كم ستكون مساهمة منطقة الظاهرة الاقتصادية المتكاملة في إجمالي الناتج المحلي الإجمالي للسلطنة، وكم ستوفره من فرص عمل مختلفة للعمانيين، أما إذا ما احتكمنا لمنطق قيادة المناطق الحدودية لديمومة المصالح والاستقرار بين الدول المتجاورة، فإن تجربة محافظة الظاهرة ينبغي أن تنتقل كذلك إلى محافظة ظفار للدواعي نفسها، وذلك عبر فتح منفذ بين متين بولاية ثمريت والخرخير بمنطقة النجران – مقترح سابق – بهدف تعظيم الفوائد الاقتصادية، وقيادة الحدود للنهضة الاقتصادية بين الدول الحدودية، فمنطقة خرخير السعودية تقع عند المثلث العُماني السعودي، ويمكن أن ينعش منطقتي المزيونة وصلالة الحرتين، وتفعيل ميناء صلالة للحاويات، والاستفادة من بحر العرب والمحيط الهندي، مما يمكن أن يفتح للبلدين الأسواق اليمنية ودول القرن الإفريقي، ويختصر مسافة ما بين 1000و1500 كم بين البلدين، ولنا تصور عمق ومستقبل العلاقات الاقتصادية العُمانية السعودية من خلال استغلال هاتين المنطقتين الحدوديتين، ومدى تأثيرهما على استقرار المنطقة بأكملها، فكيف إذا ما انضمت إليها الدول الحدودية الأخرى كالإمارات واليمن؟ ونعتقد أن التجربة الثنائية العُمانية السعودية هي مشروع نموذجي مفتوح للمنطقة، أو ينبغي أن يكون كذلك.