مستقبل العلاقات العمانية الإيرانية
العنوان أعلاه يعيد صياغة الاهتمامات بنتائج زيارة جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- لطهران التي استغرقت يومين، إذ إن جل الاهتمامات تنصب على أبعادها ونتائجها الإقليمية والدولية، وهي فعلا حاملة لهذا الثقل الكبير، والمتابع العميق، لما قبل الزيارة وأثنائها وبعدها، سيرى أن كل الملفات الإقليمية وبعض الملفات الدولية الساخنة كانت في صلب زيارة جلالته لطهران، كالأزمات بين المنامة وطهران، وبين القاهرة وطهران، ومتابعة ملفات المصالحة وتعزيز الشراكة بين الرياض وطهران، والأزمة اليمنية، وعلاقة طهران بالغرب، وبالذات مع واشنطن.. الخ.
ومع ذلك، فقد كان لتطوير العلاقات الثنائية بين مسقط وطهران الاهتمام اللافت، وما خرجت به زيارة جلالته الأولى لطهران من نتائج عملياتية قابلة للتطبيق تدشن حقبة جديدة في علاقات البلدين، وقد كانت هذه النتائج منتظرة منذ سنوات على وجه التحديد، لكنها جاءت الآن في خضم التحولات الجيوسياسية الإقليمية والدولية، وانفتاح مسقط على محيطها الخليجي بصورة غير مسبوقة، وبالذات مع الرياض التي تؤسس معها شراكة استراتيجية مستقبلية قائمة على تبادل المنافع والمصالح.
واللافت في زيارة جلالته لطهران أنها مفتوحة الأجندات المختلفة، وقد تم التحضير لها مسبقا.. تحضيرا يناسب ماهياتها لضمان نجاحها المتعدد والمتنوع، وسيحسب لها أنها كانت منعطفا تاريخيا على الصعيدين الإقليمي والثنائي، فلو توقفنا قليلا عند الأجندات الإقليمية -لأن تركيزنا هنا سينصب على العلاقات الثنائية- فسنلاحظ النتائج الفورية للزيارة، فبعد يوم واحد من زيارة جلالته لطهران، وجه الرئيس الإيراني وزارة الخارجية باتخاذ الإجراءات لتعزيز العلاقات مع القاهرة، وتنتقل المساعي العمانية الإقليمية من مفهوم المصالحات إلى إقامة علاقات إقليمية قوية، وكل الظروف تنضج مساعي مسقط الآن، لعل أبرزها تحرر كبرى دول المنطقة من علاقات دولية كانت سببا في التوترات الإقليمية، وسيادة البرغماتية على الأيديولوجية.
وربما المصلحة الإقليمية تقتضي إقامة كيان اقتصادي / أمني إقليمي ينصهر فيه الكل، وينقلهم من حقبة التفكير العدائي إلى حقبة التفكير النفعي الجماعي، ومن حالة الاعتماد على الأجنبي وأساطيره الحربية، إلى الاعتماد الإقليمي على ضمانة استقراره وتنميته، والإمكانية قائمة على الواقع في ضوء تشكيل نظام عالمي جديد قائم على التكتلات الكبيرة، وأبرز هذه الإمكانيات، الجوار الجغرافي بين دوله، ووجود تعاملات تجارية واقتصادية كبيرة قائمة بالفعل، وكذلك روابط ثقافية وحضارية متجذرة، وتأسيس شراكات جديدة بين دول المنطقة قائمة على التعاون بديلا عن التنافس.
أما بالنسبة لمستقبل العلاقات الثنائية بين مسقط وطهران، فقد جاءت نتائج زيارة جلالته لطهران واضحة المسارات والأهداف، ومحددة الأدوات التنفيذية، تعكس توفر الإرادة السياسية الفعلية لكلا البلدين لتطوير العلاقات، ومدى استفادة البلدين من بعضهما البعض، وهذا لم يكن سابقا بهذا الوضوح في حقب علاقة دولتي المضيق -أي هرمز- الذي يعبر من خلاله 40% من الإنتاج العالمي للنفط الخام المنقول بحرا، وتعبره يوميا ما بين 20-30 ناقلة بحمولة تتراوح بين 5-16، مليون طن، بمعدل ناقلة نفط كل 6 دقائق في ساعات الذروة، وتديره مسقط وطهران بثقة عالية انعكست إيجابا على أمن الملاحة البحرية، وهما كذلك من دول الجوار حيث لا تبعد مدينة خصب بمحافظة مسندم عن ميناء بندر عباس الإيراني سوى حوالي 22 ميلا بحريا.
وكبرى هذه النتائج، الاتفاق على انتقال العلاقات الاقتصادية بين مسقط وطهران من الحقبة التجارية إلى الحقبة الاستثمارية مع تعزيز التكاملية التجارية، وهذا ما كشف عنه كبار المسؤولين الإيرانيين، وعلى رأسهم الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، بأن «البلدين لديهما فرص وطاقات كبيرة في مجالات الصناعة والتجارة والاتصالات والطرق والسكك الحديدية والنقل البحري والمبادلات المالية والنقدية والمجالات الدفاعية والأمنية».
وقد تم تشكيل خلال هذه الزيارة لجنة استثمارية مشتركة بين مسقط وطهران، وستكون مسؤولة عن الموافقة على المشاريع المشتركة بين البلدين، وقد أعرب وزير الاقتصاد والشؤون المالية الإيراني إحسان خاندوزي عن أمله للدخول في مرحلة التنفيذ بسرعة، وهذا التصريح يعكس الرغبة الإيرانية في التطبيق، والرهانات الاستثمارية المشتركة مع مسقط، وقد نجد فيه رسالة من طهران لتبرهن جدية توجهها، كما يعني أن مسقط وطهران ستدخلان في مرحلة الإنتاج المشترك للمشاريع التي يتفق عليها البلدان.
وهنا سيكون حجم الفائدة لسلطنة عمان متعاظما، وذلك لقدرات طهران البشرية والتقنية العاليتين، خاصة أن للسلطنة توجهات كبرى لإقامة اقتصادها الجديد على التقنية من جهة، ولمواجهة تحديات عالمية وإقليمية من جهة ثانية، فلدى مسقط توجهات معلنة في الاستثمار في قطاعات محددة مثل، الفضاء والطائرات المسيرة والذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني وتقنيات الطاقة المتجددة.. الخ، وقد قطعت طهران في بعضها نجاحات تفوق الدول الكبرى، ومن هنا يستوجب على الجانب العماني اختيار قطاعات الإنتاج المشترك مع الجانب الإيراني التي تخدم المصالح الوطنية المستقبلية، من منظورين: الاستثمار في تطور التقنية، وفي تكوين جيل تقني عماني.
وقلنا في مقال سابق معنون باسم «الاقتصاد العماني الجديد.. وجيله الوطني التقني/ التكنولوجي» إن تلكم المسارات سالفة الذكر تحدد مفهوم التجدد للنهضة العمانية المعاصرة، وطهران من بين الدول التي ينبغي على بلادنا أن تستفيد منها تقنيا وتأهيل مواردنا البشرية، وقد أنشأت السلطنة المؤسسات المتخصصة لتلكم التحولات، مثل إنشاء شركة «هايدروم» للاقتصاد الهيدروجيني مهمتها قيادة تحويل السلطنة إلى أن تكون مركزا عالميا لإنتاج الهيدروجين الأخضر بإنتاج مليون طن سنويا، بهدف المساهمة في أمن إمدادات الطاقة محليا وعالميا، وتنويع الاقتصاد العماني، وصناعة فرص عمل، وكذلك إقامة المركز الوطني للفضاء والتقنية المتقدمة والذكاء الاصطناعي عام 2020 لدواعي متعددة، اقتصادية وأمنية وعسكرية... إلخ.
والتوجه العماني الإيراني نحو الإنتاج المشترك، يتناغم مع إعلان جهاز الاستثمار العماني عن توجهه للاستثمار في تقنيات الطائرات المسيرة؛ وقد تم التعاقد مع شركة عالمية متخصصة في مجال تطوير التقنيات، ويفتح الخيار الإيراني الآن لمسقط الآفاق الرحبة، والمتعددة الأهداف، كون طهران تسابق الدول الكبرى في تطوير تقنيات الطائرات المسيرة وصناعتها في آن واحد، لذلك يحكم الإنتاج المشترك مع طهران تحقيق الأجندات العمانية الكبرى من منظور ماذا يمكن لمسقط أن تستفيد من جارتها طهران، بحيث لا يكون منحصرا في التكامل التجاري فحسب، وإنما الدخول في الإنتاج المشترك، وفي المجالات التي تبني قوة سلطنة عمان الاقتصادية المعاصرة.