مستقبل العرب بين الاستقطاب والتهدئة وبين الثلاثي السعودي/ المصري/ العماني «2 من 2»

10 يونيو 2023
10 يونيو 2023

في المقال السابق تمت الإشارة إلى أن المنطقة العربية هي أكبر منطقة سحقت ونكبت بنظام هيمنة القطب الواحد، لذا فهي أكبر منطقة جيوسياسية توجد لشعوبها مصلحة مصيرية في الاستفادة بل في دفع وتسريع التحولات الجارية في العلاقات الدولية نحو نظام عالمي متعدد القطبية هي هذه المنطقة.

وجرى التنويه بما يمكن وصفه بتيار يقظة عربية مشجع للغاية في العامين الأخيرين، تيار عبّر عن درجة معقولة من الوعي السياسي العربي بضرورة التحرك للاستفادة من هامش الحركة الذي تتيحه حالة السيولة في العلاقات الدولية الناتج عن مزاحمة الصين لواشنطن على «قمرة» القيادة العالمية.. ومع تيار اليقظة هذا تم تفكيك توترات وصراعات عديدة بين العرب ودول الجوار الجغرافي الطبيعي التي تتشارك معنا في إرث وثقافة الحضارة الإسلامية وهما تركيا وإيران.

ويكاد هذا المقال يراهن على أن مستقبل العرب على المدى القصير والمتوسط محصور في قسم مهم منها في الصراع الضاري بين تيار اليقظة العربي الذي يسعى إلى كبح التوترات وتسوية النزاعات والتركيز بدلا من ذلك على التنمية.. وبين تيار الاستقطاب الذي يريد العودة بها إلى حالة المواجهة «وإدارة النزاعات» وليس حلها. والفيصل في ذلك يتوقف على إجابة النخب الحاكمة العربية على سؤال واحد هو هل تيار اليقظة الذي تتبناه الآن «هو خيار تكتيكي أم خيار استراتيجي؟».

هل القرار العربي الراهن بالاستفادة من التحول الجاري في النظام الدولي من نظام أحادي القطبية بما يعنيه من عدم الدوران في الفلك الغربي إذا تعارض مع المصلحة الوطنية أو العربية هو قرار استراتيجي أم مجرد مناورة للحصول على مكاسب أو مطالب أو تعهدات امتنعت واشنطن مؤخرا عن تقديمها في مجالات الأمن والتسليح بالإضافة للحاجة لتغيير تعامل من إدارتها وصف من البعض بالغطرسة؟

لماذا هذا السؤال مركزي؟

لأن القوى المستفيدة من حالة الاستقطاب إسرائيليًا ودوليًا تسعى الآن بكل قوتها وكما حاولت في مواجهة كل محاولة لليقظة العربية إلى إعادة العرب إلى مربع الرقص على إيقاع الآخرين.

ولا تعطينا القمة العربية الأخيرة في جدة الإجابات التي كان ينتظرها العرب على الأسئلة السابقة إذ مالت إلى إعادة استنساخ الصيغة التقليدية لقرارات جامعة الدول العربية.

ولكن تعطيه لنا قرارات وطنية في العامين الأخيرين مثل رفض العرب ضغوط الغرب للحصول على انحياز صريح له في حربها مع روسيا بالوكالة على الأراضي الأوكرانية، ورفض عربي وسعودي لخفض غير مبرر لأسعار النفط أو لوقف التنسيق مع روسيا في صيغة أوبك - بلس ورفض - وذلك هو الأكثر أهمية - لمطلب وقف التقارب مع إيران إقليميًا ومع الصين دوليا بل وردت الرياض على الضغوط الأمريكية للابتعاد عن بكين بطريقة غير مألوفة تمثلت في دعوة الرئيس شي جين بينج لأهم قمة عربية-صينية في إشارة ربما إلى الاستقلال النسبي والشب عن الطوق وعدم انتظار رضا أحد.

تضع هذه الإشارات المهمة على انفلات محدود ولكن نوعي للسهم العربي من قوس الهيمنة الدولي مسؤولية كبيرة على الدول العربية مجتمعة للاستمرار في طريق حماية مصالح دولها وشعوبها عبر توسيع هامش حركتها وتحديد معاملاتها السياسية والاقتصادية على قاعدة «نتعاون مع الطرف الذي يحقق لي في هذا الأمر مصلحة أكثر من غيره.. أي ربما في استعارة حضارية من العرب للمثل الذي بنيت عليها النهضة الصينية الجبارة الراهنة وهو مثل دينج شياو بينج «لا يهم لون القط».

لكن هذه الإشارات تضع مسؤولية خاصة على ثلاث دول مهيأة مرحليا -إذا تعاونت معًا ونسقت خطواتها- للعب دور في مسار تفكيك الاستقطاب والتموضع العربي الصحيح للنظام الدولي التعددي القادم عندما تنتهي حالة السيولة الحالية وتستقر قوائمه على الأرض. هذه الدول بدون ترتيب هي السعودية، ومصر، وعمان.

السعودية: السلوك الإقليمي للسعودية تحت قيادة ولي العهد يكشف عن رغبة وعن قدرة لدى الرياض للعب دور رئيسي في الإقليم يسنده انفتاح اجتماعي كان يكبل الحركة السعودية في الماضي ووضع اقتصادي جعل السعودية صاحبة أعلى معدل نمو العام الماضي. وإذا استمرت الرياض في نهجها الجريء في التجاسر على الاستفادة من تحول النظام الدولي وإيجاد صيغة متكافئة للعلاقة مع الغرب تقوم على المنافع المتبادلة وبالقدر نفسه وليس على صيغة «الأمن مقابل النفط» القديمة التي لم تعد ملائمة للمتغيرات العالمية.. فإن قدرتها على إقناع المنطقة بالتجاوب مع هذا الدور ستزيد بقوة.

مصر: مهما عطلت الأزمات الاقتصادية أو الانفجار السكاني هذه الدولة العربية الكبيرة عن ممارسة دورها الإقليمي بالفعالية التاريخية التي كانت معروفة عنها فإن كل الحوادث التي تتكرر من فترة لأخرى تعيد التذكير بأن هذا البلد متى قرر توسيع هامش المناورة، وبادر باتخاذ قرارات سياسة خارجية تعكس ثقله فإن استجابة القوى الإقليمية والدولية وشعوب المنطقة تكون عادة استجابة سريعة ومذهلة.

نظرة بسيطة على الاستحواذ الخرافي والاحتفاء شعبيًا وحتى رسميا على العالم العربي من المحيط إلى الخليج في الأيام الأخيرة بقيمة ومغزى استشهاد جندي مصري باسل في عملية بطولية ضد جنود إسرائيليين تكشف دون تزيد عن أن تطورًا حقيقيًا لسلوك الاستقلال العربي عن كل الأفلاك الغربية والشرقية واتباع بوصلة مصالحها الوطنية والعربية فقط لا يمكن أن يأخذ قوة الدفع اللازمة دون انضمام القاهرة إليه بكل ثقلها المخزون وربما كان اختبار خطوة شجاعة حاسمة من مصر وإيران في ملف إعادة علاقاتهما في أسرع وقت هو أحد الاختبارات التي ستكون مؤشرا مهما في هذا الصدد.

سلطنة عمان: صار من المتفق عليه موضوعيا بين الجميع أن عُمان أصبحت قوة المصالحة والتفاوض والوساطة وتقريب المواقف التي تلقى القبول من الجميع في الإقليم بل وفي العالم واستفاد الجميع من حيادها ونزاهتها واستقرار سياستها الخارجية. إذ إن عُمان كانت طرفا في معظم التحولات الإيجابية في المنطقة وفي علاقة المنطقة بالعالم في السنوات الماضية.

ستجد عُمان هي الطرف الأساسي الذي مهّد لأهم اتفاق نووي بين إيران والولايات المتحدة في عهد أوباما.

وعُمان كانت طرفًا أيضا في التطور الأهم وهو القطيعة بين السعودية وإيران. كما كانت كذلك الوسيط الموثوق في إعادة العلاقات العربية مع دمشق، وفي اليمن تلعب مسقط دورا بارزا في تسهيل حوار غير مسبوق بين السعودية وأطراف الأزمة اليمنية.

وبما أن استكمال نجاح تفكيك الاستقطاب يحتاج إلى نجاحات أكبر في حل قضايا اليمن وسوريا ولبنان وليبيا التي ما زالت جروحها مفتوحة وبما أن العلاقات العربية مع إيران وتركيا تحتاج إلى صيغة حوار وتنسيق مؤسسية جماعية تمنع انتكاسها من جديد فإن الدور العماني سيكون مطلوبًا أكثر من أي وقت مضى خاصة إذا تم تنسيق ثلاثي بين مسقط والقاهرة والرياض تدعمه وتقف خلفه إرادة استقلال عربية عامة.

حسين عبدالغني إعلامي وكاتب مصري