مستقبل الخيار الاستراتيجي الخليجي: شرقا أم غربا؟
العنوان أعلاه نطرحه من قبيل تحريك الفكر السياسي الخليجي للتفاعل مع تحديات اللحظة الزمنية التي تشهد تحولات إستراتيجية تؤسس لمرحلة إقليمية ودولية جديدة، وبالتالي، فهي تفترض مسارا خليجيا جديدا لمواكبتها، لذلك خصصنا مقالنا بالعنوان أعلاه، وهو نتيجة تحليل موضوعي متحرر من حساسية السياسة الخليجية وعلاقاتها التاريخية مع الغرب الأمريكي والبريطاني تحديدا، ومستشرف لنتائج التحولات العالمية وانعكاساتها الإقليمية مقارنة مع الإكراهات الوجودية المتعاظمة التي تلقي بظلالها على دول غربية كبرى كلندن والتي قد تجد نفسها قد تعيد استراتيجياتها العالمية لإكراهات داخلية قوية.
وهذا المسار الجديد قد رأته إيران عبر انضمامها مؤخرا إلى منظمة شنغهاي للتعاون، وتتعمق فيه تركيا الآن، مما قد يخرجها عن الركب الغربي بالاتجاه شرقا، وهنا التساؤل، أين مستقبل المصلحة الاستراتيجية الخليجية، هل في تمسكها بخيارها الغربي التاريخي أم تحتم عليها الاتجاه شرقا؟ وما طبيعة العلاقة التي ستحكم الغرب بالشرق؟ وهل سيكون لدى الخليج من صيغ مقبولة للتعايش مع الجانبين؟ تساؤلات نواكب بها آنية التحولات الجيوسياسية العالمية، وانعكاساتها الإقليمية بعد أن أصبحت إيران عضوا كامل العضوية في منظمة شنغهاي بعدما كانت عضوا مراقبا منذ عام 2005، وقد قدمت خلال قمة شنغهاي الأخيرة التي عقدت في سمرقند عاصمة أوزبكستان ما بين 400 إلى 500 عقد ووثيقة، كالتزامات إيرانية مقابل هذه العضوية الكاملة.
واستحقاق طهران العضوية الكاملة لشنغهاي، يأتي بعد خمسة أعوام من المفاوضات بين الجانبين، وهذا يرجح الخيار الاستراتيجي الإيراني على شنغهاي، وليس كرد فعل كما تصوره بعض التحليلات على أنه توجه بسبب جمود ملفها النووي مع الغرب، فغرقت التحليلات في تقاطع السياقات «الانضمام والجمود» بينما سنوات الخمس من المفاوضات والعدد الكبير للمواثيق والعهود على عكس ذلك.
أغلب الدول الخليجية العربية في وضعية مراقب، لذلك ينبغي أن تطرح كل دولة خليجية التساؤلين التاليين، ماذا ستستفيد في حالة انضمامها لمنظمة شنغهاي بكامل العضوية؟ في المقابل، ماذا ستخسر في حالة بقائها على الوضع الحالي بميول غربية خالصة؟ كل الظرفيات مواتية الآن لطرح مثل هذه التساؤلات، وهنا يستدعي التذكير بالتحولات المصيرية التي تواجه الدول الغربية الحليفة التاريخية للخليج، ولنأخذ لندن نموذجا، ونشير إليها في النقاط التالية:
وفاة الملكة اليزابيث الثانية.
- تصاعد هواجس الحركات الانفصالية في اسكتلندا وإيرلندا الشمالية وويلز وفي دول الكومونولث خاصة بعد هذه الوفاة.
- تفجر أوضاع لندن الاقتصادية الصعبة وانعكاساتها البنيوية على مواطنيها.
- تساؤلات كبرى تطرح الآن في لندن حول مستقبل الملكية فيها.
تشكل تلكم تحديات كبرى لبريطانيا، أبسط ما يمكن استشرافه منها، أن لندن قد تجد نفسها في حقبة انحسار تاريخية جديدة عالميا، كتلك التي حدثت لها في أواخر الستينيات، وتركت واشنطن وريثة لها، لكن هذا الوريث يعاني الآن من مجموعة تحديات وجودية لدوره العالمي، إضافة لتحديات داخلية كبيرة، وكلها تتزامن في حقبة تتميز بتنامي الاضطرابات الاجتماعية أما بدوافع الجوع والعاطلين أو الاستقلال، ويستغلها اليمين المتشدد في أوروبا للوصول للسلطة، ونجاحه في إيطاليا مؤخرا كبرى المؤشرات على طبيعة التحولات المقبلة في أوربا.
ولو اطلقنا الفكر في استشرافاته بلا قيود، فقد نتوقع أن تنظم بريطانيا لمنظمة شنغهاي إذا ما تأزمت أوضاعها الاقتصادية في ظل تداعيات خروجها من بريكست سواء احتفظت بكيانها السياسي كما أورثته الملكة الراحلة أم تصدع بضربات الاستقلال الجديدة، فقد تبدو دولا مثل الصين منقذا للندن، كما قد تبدو لدول أخرى كألمانيا فرصة لتعزيز مكانتها العالمية، وقد تلتقي الأجندات الدولية بدواعي التاريخ خاصة بعد نتائج الحرب العالمية الثانية.
لا يمكن استبعاد أية احتمالات في المرحلة الراهنة، لأن التحديات التي تواجه الدول كبيرها وصغيرها من النوع الوجودي الذي يجعل المستحيل ممكنا من أجل الحفاظ على الوجود، وكل دولة تسقطه من حساباتها ستجد نفسها أمام تحديات وجودية ثنائية داخلية وخارجية خاصة في مرحلة انحسار الدول الكبرى أو تحول بوصلتها العالمية وفق ما ستفرزه الحرب الروسية على أوكرانيا من نتائج عالمية، وتأثيراتها الاقتصادية على أوروبا، وإن بدأت منظمتا شنغهاي للتعاون وبريكس تعكسان ملامح هذه النتائج مسبقا كقطبين يؤسسان للتعددية العالمية المؤثرة في صناعات القرارات العالمية.
وهنا لا ينبغي للدول الخليجية الست أن تقف متفرجة على النتائج الكبرى التي تظهر أمامها من الآن، أو تظل رهاناتها التاريخية ثابتة، فلابد من أعمال الفكر من قبل كل دولة، وعليها أن تؤسس مصانع وطنية خالصة ومستقلة، يكون جل تفكيرها مستقبلي وفق أسوأ الاحتمالات... ولو فعلت ذلك، ستجد أمامها الآن خيارا واحدا فقط، وهو أن لا تقف بعيدة عن منظمة شنغهاي للتعاون مهما كانت الإكراهات الغربية عليها الآن، فهذه المنظمة هي سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية واجتماعية.. وتقدم نفسها بصورة مثالية وجاذبة للدول وشعوبها على عكس المنطق الغربي الذي يبتز الدول، ويتخذ من شعوبها أدوات للضغط عليها لابتلاع المزيد ثم المزيد.
ويكفي التأمل في مستقبل القوة الرباعية لمنظمة شنغهاى، وهى الآن تتمثل في الصين وروسيا والهند، وقريبا تركيا، واللافت الذي ينبغي أن يستوقف دول الخليج العربية مرحلة تأسيس هذه المنظمة من دول أصبحت تتجاوز خلافاتها، وترجح التعاون المشترك،علما بأن خلافاتها عميقة، وأولويات سياساتها متباينة، وفي حالات متعارضة، لكنها واقفت على التعاون وفق أدبيات وأجندات شنغهاي، وأصبحت تحكمها الآن عهود ووثائق العضوية الكاملة، ولنا في الأعداد الكبيرة التي قدمتها طهران مثالا.
وكل من يقرأ ميثاق هذه المنظمة ونتائج قممها السابقة، سيتضح له مدى تناغمها مع المصالح الاستراتيجية العليا للدول الخليجية، فهناك مبادئ وأهداف جماعية حاكمة لدول شنغهاي مثل الأمن الجماعي بين دول الأعضاء، ومعارضة التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى بحجة الإنسانية وحماية حقوق الإنسان، ودعم جهود بعضهم بعضا في حماية الاستقلال الوطني للدول الأعضاء والسيادة والسلامة الإقليمية والاستقرار الاجتماعي، وتعزيز سياسة حسن الجوار بين الدول الأعضاء، إلى جانب دعم التعاون بينها في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، ومواجهة التكتلات الدولية بالعمل على إقامة نظام دولي «ديمقراطي وعادل».
وتجرى بين الدول الأعضاء تدريبات عسكرية بانتظام لتعزيز التعاون والتنسيق ضد الإرهاب والتهديدات الخارجية الأخرى، والحفاظ على السلام والاستقرار الإقليميين، ويشارك أكثر من 4 الآلاف جندي في التدريبات العسكرية المشتركة، وهذا يبين مدى استعداد القوة العسكرية في خدمة مصالح دول شنغهاي الاقتصادية، وما لجوء الصين عام 2017 إلى تغيير مواد في دستورها تحظر خروج جيشها من أراضيها إلى السماح له بالتدخل في أية بقعة في العالم شريطة أن يكون هناك تهديد لمصالحها الخارجية إلا نموذجا بمدى الاستعداد لاستخدام القوة الخشنة لمجرد وجود تهديد لمصالحها.
وهناك فرص عديدة للدول الخليجية يمكن أن تستفيد منها في حالة انضمامها لشنغهاي، منها ضمانة حل خلافاتها مع جارتها طهران وديا وسلميا وفق مبادئ شنغهاي سالفة الذكر، أو على الأقل جعلها في إطار الأبواب المفتوحة للتعاون والشراكة الاقتصادية، وستقلل من عمليات التدخل في الشئون الداخلية لدول شنغهاي، كما أن حصولها على العضوية الكاملة سيؤدي إلى التكامل الاقتصادي معها، فهي تشكل أكثر من 20 % من ناتج الاقتصاد العالمي.
وقد بلغ حجم اقتصاديات دول شنغهاي في عام 2020 نحو 18،4 تريليون دولار بينما قفزت التجارة البينية لها إلى 6.2 تريليون دولار خلال نفس الفترة، وتوفر المنظمة القروض الميسرة والائتمانات والتمويل من خلال ما يعرف باتحاد البنوك المشتركة لتمويل مجالات التعاون ذات الأولوية داخل منظمة شنغهاي، مثل تمويل المشاريع التي تركز على البنية التحتية والصناعات الأساسية وصناعات التكنولوجيا الفائقة والقطاعات الموجه للتصدير والمشاريع الاجتماعية.
كما ستكون الممرات الدولية في الخليج من بين أكبر القطاعات المستفادة، خاصة الممرات العمانية الجيوستراتيجية، لأنها ستسهل التجارة بين دول شنغهاي من جهة وبينها مع دول القارتين الأفريقية والأسيوية ودول المحيطين الهندي والهادي، وسيتعزز مركز مسقط اللوجستي عالميا، وستتحول إلى بوابة لوجستية عالمية متعددة الأغراض، وهذا نجاح لقطاعات اللوجستيات الذي تعتبره رؤية عمان 2040 من بين خمسة قطاعات تشكل بديلا مستداما لقطاع النفط.
هذه رؤية عميقة لخيار غير تقليدي ندعو دول الخليج العربية إلى دراسته من منظور المتغير والثوابت في علاقاتها الخارجية، وتأثيراتها المستقبلية على أمنها واستقرارها، فالعالم يتشكل الآن على أساس الأقطاب على حساب الأحادية، وفيه تتغير مفاهيم الصديق والحليف، ولنا في الهند نموذج هنا، فهي ورغم صداقتها الغربية، وتحديدا مع واشنطن إلا أنها تظل محكومة بمستقبل مصالحها الاقتصادية، وطموحاتها العالمية، فانضمت لمنظمة شنغهاي دون عداوة الغرب، فهل سيكون الوضع نفسه للدول الخليج العربية ؟ الآن نرى الظرفية العالمية مواتية للخليج العربي، وقد لا تكون متاحة لاحقا، أو قد تكون لكن جاذبيتها للانضمام ستفقد بريقها وامتيازاتها في ضوء ما أشرنا إليه بأن دولا أوروبية كبيرة كبريطانيا وألمانيا ليس مستبعدا عليهما الانضمام لمنظمة شنغهاي.