مسارات الفكر السياسي الإسلامي وأطواره
قطع التفكير في السياسة، في نطاق الفكر الإسلامي الكلاسيكي، شوطا مديدا مر فيه بمسارين من النظر توازيا، أحيانا، وتقاطعا في أحايين أخرى... وإن في مساحات من التقاطع جزئية وجد محدودة. في المسار الأول وقع التفكير في السياسي في نطاق عـلوم دينية، مثل الفقه (= فقه السياسة الشرعية) وعلم الكلام (مسائل الإمامة وأبوابها في كتب المتكـلمين). والمسار هذا قورب فيه السياسي في صلته بالديني، وفي انبنائه على ذلك الديني من حيث إنه (أي السياسي) حقل من حقول الديني، شأنه في ذلك شأن مسائل أخرى من قبيل الفرد والأخلاق والقيم وعلاقات الجماعة المؤمنة...؛ فهذه جميعها- وغيرها كثير- موضوع لفعل الشرع ولأحكامه.
أما المسار الثاني فأفصح فيه ذلك التفكير الإسلامي الكلاسيكي عن نظرة دنيوية، غير مسبوقة، إلى الشأن السياسي. لكنها، شأن كل نظرة جديدة، أتت متفاوتة الوضوح والكثافة في الحضور بين ميدان وآخر من ميادين القول السياسي. بدأ ذلك الملمح الدنيائي يلحظ- في صورة أولى منه- في نصوص كـتاب الديوان وكـتاب الآداب السلطانية إجمالا، ثم ما لبث أن اتسع مساحة في نصوص فلاسفة السياسة وصولا إلى ذرى تجليه في تحليلات العلامة عبدالرحمن بن خلدون للدولة. ولقـد بـدا - في هذا المسار الثاني من النظر إلى السياسة والسلطة - شكل ما من الاعتراف، أو التسليم، بأنهما ظاهرتان دنيويتان، في المقام الأول، وأن مدارهما على المصالح الدنيوية للناس ،وبالتالي، تتقرران بمدى ما تخدمان به مصالح السلطان أو مصالح الرعية، أو هما معا، لا بمدى ما تلتزمان به من أحكام الشرع. وفي اتصال بذلك، بدا -على نحو غير مباشر- كما لو أن رائزهما الذي يراز به أمرهما هو العقـل قبل الشرع وأحيانا حتى من دون الشرع.
على أن هذه النظرة الدنيائية إلى السياسي لم تكن، دائما، صافية بهذا الوضوح الناجز في الفكر الإسلامي؛ ذلك أنه كثيرا ما شابها قدر من تخلل الاعتبارات الدينية لها أو تسرب قيم الدين إليها. وما كان ذلك فقط من وراء انتحال الفقهاء لأسلوب الكتابة السلطانية (= الديوانية) وإدخالهم بعض أغراضهم الدينية فيها، بل لأن أهل هذه الميادين من الكتاب والمفكرين ما كان يسعهم -يوما- حتى إن هم أرادوا ذلك، أن يتخطوا عامل الدين في مجتمع يـدين به أهـله المؤمنون. هكذا وجد كـتاب الديوان - ومحترفو الكتابة السلطانية - أنفسهم مدفوعين دفعا إلى استدخال عوامل الدين في الكتابة لإدراكهم بأن الدين حاجة من الحاجات التي تقوم بها أركان الحكم في الإسلام. وقريبا مما فعله هؤلاء، أوجد له بعض الفلاسفة (أبو نصر الفارابي على وجه التحديد) مكانة اعتبارية في مدينتهم الفاضلة (حيث النبوة ترادف العقل؛ على الأقل لأن مصدرهما، عند الفارابي، واحد هو: العقل الفعال). أما عبدالرحمن بن خلدون فأدرك، بعد الفلاسفة، مقدار ما يملكه الدين من طاقة ومن فاعلية بعيدة الأثر في أي دعوة سياسية تقودها عصبية كبرى للاستيلاء ونشر النفوذ والسلطان. مع ذلك، ورغم هذا التخلل الديني للسياسي، الذي أدركه هؤلاء جميعا، إلا أنهم لم يهدروا الطابع المدني للسلطة، إطلاقا، ولا هم سمحوا لأنفسهم بأن يتناولوا مسائلها بمعزل عن استصحاب المبدأ المؤسس لها (= المصلحة)، ولا هم بارحوا التشديد على طابعها الدنيوي.
هذه واحدة؛ الثانية أن الفكر السياسي الإسلامي لم يتمظهر في شكل واحد منه مكرور، وإنما كانت له تبـديـات عدة، ولعل كل تبد منها اقترن بطور من أطوار ذلك التاريخ الفكري، كما بميدان من ميادين النظر الإسلامي إلى مسائل السياسة. لذلك لا ندحة للباحث في هذا الفكر السياسي الإسلامي عن تحقيب تاريخ هذا الفكر، وبيان وجه التمايز والتشابه بين أي طور منه وآخر، قصد بناء إدراك دقيق لسيرورة تطوره.
بدأ التفكير في السياسة، مع علم الكلام، في شكل تقرير «لأحكام الدين» في الإمامة، ثم ما لبث أن صار تشريعا لها (= للسياسة والإمامة) في ضوء الشرع والمصالح الشرعية (على نحو ما سيكون عليه الأمر في الفقه السياسي بدءا من القرن الخامس للهجرة)، ليصبح فعلا يتخذ شكل نصيحة مسداة إلى السلطان (= كتاب الآداب السلطانية وفقهاء السلطة). ومثلما سعى المتكلمون والفقهاء (والأولون خاصة) إلى إلزام السلطة بارتداء ثوب مفصل على مقاس الشرع و، بالتالي، فرض الوصاية على السياسي من باب الاحتساب الديني عليه، كذلك حاول كـتاب الآداب السلطانية -ومن لحق ببضاعتهم من الفقهاء- أن يكتفوا من الشرع أو من حزمة أدوارهم، التي أرادوها لأنفسهم، بأداء دور واحد وحيد: إسداء النصح إلى السلطان ليقوى به سلطانه وتعظم به قوته. كان لكل من أصحاب النصيحة تلك طـلـبة: ابتغى فـقهاء السلطة بالنصيحة قـدرا من عناية صاحب السلـطة (= خليفة، ملك، أمير...) بأوامر الدين مع عدم الذهول عنها في التشريع؛ فيما انصرف الكتاب السلطانيون إلى إرشاده إلى الأسباب التي بها كانت رفعة الملوك وعلو صيت ممالكهم في بلاد فارس وفي غيرها. لكن هذا الفارق في البغية بين كل من هاتين الفئتين لم يمنعهما من الاجتماع على الهدف عينه: تحقيق الملك القوي العادل.
غير أن التفكير في السياسة ما لبث أن انتقل من طور النصيحة إلى طور النقـد: نقد السياسة. بدأت أولى علائم ذلك الانتقال في نطاق الفلسفة السياسية؛ في انتقاد أبي نصر الفارابي لأحوال ما سماها بالمدن المضادة للمدينة الفاضلة (وهي المدن التي كانت نماذجها الذهنية تنطبق على الدول السائدة في الاجتماع السياسي الإسلامي لذلك العهد وما تلاه)؛ وفي نقد بن باجة الضمني للدولة القائمة، في عهده، في الأندلس وانصرافه إلى «تدبير المتوحد» (= وهو عـنوان كتابه)؛ هذا الغريب في مجتمعه؛ ثم في النقد الرشدي لأنظمة الحكم الإسلامية والأندلسية. وسيأخذ النقد هذا، أخيرا، مداه مع ابن خلدون في المقـدمة، حيث تحليله المستفيض للعلل ولمواطن العوار التي تأخذ الدولة، في التجربة التاريخية للاجتماع الإسلامي، إلى حتفها وتأخذ معها العمران إلى خرابه: الاستبداد، الظلم، الانغماس في أحوال الترف، الاستظهار بالمصطنعين وسوى هذه من العوامل المسؤولة عن أفول الدولة وزوالها.