مرونة مدننا واستدامتها
عائشة الدرمكي
في تقرير «رغم القيظ والأعاصير. معا سنواجه الآثار الإنسانية لأزمة المناخ» الصادر عن الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر في جنيف، تم استعراض تلك الكوارث المناخية والجوية لعام 2020، والأخطار التي ترافقت مع جائحة كوفيد 19، مما أدى إلى تفاقم تداعياتها في الكثير من دول العالم؛ فقد ذكر التقرير أنه «في السنوان العشر الماضية كانت الظواهر الجوية والمناخية القصوى، كالفيضانات والعواصف وموجات الحر، سبب 83% من جميع الكوارث الناجمة عن الأخطار الطبيعية».
الأمر الذي جعل عدد الكوارث المناخية والجوية يتزايد منذ ستينيات القرن الماضي، ولأن الكوارث الطبيعية غالبا ما ترتبط بتلك التغيرات المناخية، فإن مناقشة استدامة البيئة وإدارة المخاطر مرتبط بالاستراتيجيات العمرانية، ومتسق مع السياسات الوطنية وأهداف التنمية الشاملة للدولة؛ ذلك لأن هذه الكوارث -بجراح أو فقدوا مأواهم أو سبل عيشهم - مما يقوِّض التقدم المُحرز في سياق التنمية المستدامة ويزيد من عبء النظام الإنساني المثقل أصلا بالأعباء» - بتعبير التقرير -
وإذا كانت الأخطار طبيعية وممكنة، فإن الكوارث تقع عندما يكون المجتمع المحلي « غير مزوّد بموارد كافية أو غير منظم بحيث يمكنه أن يتحمّل التأثير» - بحسب تعريف مكتب الأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث -، الأمر الذي يعني أن تفادي هذه الكوارث يكمن في تعزيز قدرة المدن على الصمود وتمكينها بحيث تكون قائمة على التخطيط الحضري المناسب من حيث التوزيع العمراني المناسب للطبيعة الجغرافية والبيئية للمدينة من ناحية، وتحديد النظم البيئية باعتبارها حواجز طبيعية من ناحية أخرى. إضافة إلى تعزيز قدرة تلك المدن على إدارة الأزمات والمخاطر في حال وقوعها، وإمكانات توفير استراتيجيات إعمار وتأهيل سريعة بعد الكوارث.
ولأن قدرة المدن على الصمود يعتمد على قدرتها على التنمية والاستدامة، فإنه لابد من إيجاد استراتيجيات واضحة للحد من مخاطر الكوارث الطبيعية على الإنسان والبيئة، ولهذا فإن (الاستثمار في الحد من مخاطر الكوارث) واحد من أهم فرص تحقيق التنمية المستدامة؛ ذلك لأنه يؤسس قدرة المدن على الصمود، ويعزز تنميتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية بما يوفر لها من إمكانات للتنمية الحضرية المزدهرة والمنصفة لجميع أفراد المجتمع، وبالتالي القدرة على المرونة.
ولهذا فإن رؤية عُمان 2040 ضمن أولوية (تنمية المحافظات والمدن المستدامة) تقدم أنموذجا مهما في تنمية المدن وتعزيز قدرتها على الصمود؛ حيث تنص على إيجاد (مناطق حضرية وريفية وتراث طبيعي وثقافي تتميز بمرونة وقدرة عالية علىى التعامل مع التغيرات المناخية). الأمر الذي يؤهل قدرة هذه المناطق على إدارة المخاطر وتأسيس المدن المرنة القادرة على الصمود وفق منظور (لامركزيتها) الإدارية والاقتصادية، وبالتالي فإن الهدف الأصيل هنا ينبني على تنمية (مرونة) المناطق. وعليه لنا أن نسأل كيف يمكن ذلك، وما وسائل تعزيز تلك المرونة في ظل الإمكانات الحقيقية للتعرُّض للأنواء المناخية والأعاصير!.
والحال أن تمكين المدن وتعزيز مرونتها عليه أن يقوم على مراجعة التخطيط العمراني الذي قامت عليه المدن والقرى في السلطنة؛ ذلك لأن هذا التخطيط هو الأساس الذي يمكِّنها من القدرة على الصمود؛ فالطبيعة الجغرافية التي تتميَّز بها السلطنة تختلف من محافظة إلى أخرى، وبالتالي على التخطيط العمراني مراعاة ذلك، فما يسبب الكوارث ليست المخاطر البيئية وحدها بل أيضا التنمية العمرانية التي تقوم عليها المدن وقدرتها على الاستدامة مع تزايد النمو السكاني المستمر، وهذا ما شهدناه في العديد من ظروف الأنواء المناخية التي تعرَّضت لها السلطنة.
ولهذا فإن البرامج الاستراتيجية الخاصة بـ (تنمية المحافظات والمدن المستدامة)، حسب ما ورد في (خطة التنمية الخمسية العاشرة 2021-2025) تتأسس على تمكين المدن اجتماعيا واقتصاديا بما يعزز قدرتها على التنمية الإقليمية الشاملة، ويؤهلها للتعامل مع التغيرات المناخية بشكل عام، و(رفع مرونة مدينة مسقط في التصدي للأنواء المناخية). وهو برنامج له أهمية بارزة لاستدامة المدن في السلطنة ، إلاَّ أن مرونة هذه المدن لا تكون سوى عن طريق الاستثمار في الحد من مخاطر الكوارث عامة، ولن يتأتى ذلك سوى بدراسة وتقييم التخطيط العمراني نفسه قبل أي شيء. فكيف يمكن تأهيل المدن والأحياء السكنية للتعامل مع المتغيرات المناخية إذا كانت هي أصلا واقعة في مناطق ذات خطورة شديدة كما نراه في الكثير من الأحياء المنخفضة أو الواقعة في محاذاة الأودية أو غير ذلك!
إن مرونة المدن وقدرتها على مواجهة الأخطار والأنواء المناخية محكوم بالتخطيط العمراني ليس فقط للأحياء السكنية بل للمدينة أو القرية كلها، ولنا في منظومة الأحياء العمانية القديمة نموذجا يمكن أن يتسق مع النماذج العالمية العصرية، وفق معايير التنمية العمرانية الحديثة، ولهذا فإن (إجراء دراسة شاملة لمختلف مناطق السلطنة خصوصا المناطق المعرضة للأنواء المناخية) - حسب وصف البرنامج في الخطة الخمسية العاشرة - عليه أن ينطلق من التخطيط الحضري للمناطق السكنية، مع يقيننا أن الدولة لم تغفل ذلك لكن علينا فقط تنفيذ تلك الخطط الاستراتيجية والأهداف والبرامج لتكون مدننا مرنة قادرة على الصمود.
تتميز المدن الحديثة بفاعلية مجتمعها المدني، القادر على تشكيل فرق متعاونة ومتكافلة في أشد الظروف صعوبة، وقد قدَّم تقرير (إدماج العمل التطوعي في خطة عام 2030) الصادر عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) الدور الحيوي الذي يقوم به المتطوعون في المجتمع، وقدرتهم على سرعة تأهيل المجتمع في شتى الأوقات، ولهذا فإن التقرير يقترح تعزيز ملكية الناس للخطة التنموية 2030، و»إدماج العمل التطوعي وتعميمه في الاستراتيجيات والسياسات الوطنية، وقياس تأثير التطوع بشكل أفضل» - بحسب التقرير - ولهذا فإن التطوع المجتمعي يشمل تلك الجهود التي تقوم بها المؤسسات الحكومية والخاصة والمدنية والأفراد بكافة طوائفهم، والقدرات التأثيرية التي يمتلكونها.
إن تنمية فكر العمل التطوعي يُسهم في بناء مجتمعات (سليمة وشمولية وقادرة على الصمود)، ولقد أثبتت السلطنة عبر تاريخها الحضاري قدرتها على إدارة الكوارث الطبيعية وفق خطط محكمة، وبتعاون مجتمعي يقدم عاما بعد آخر دروسا للعالم في إدارة المخاطر ومواجهتها وتدابير الإعمار وسرعة التغلب على تداعياتها، وعلى الرغم من قدرة المجتمع العماني على بناء منظومة قادرة على مواجهة الكوارث، إلاَّ أن هذا العمل لابد أن يتواكب مع مرونة المدن نفسها، فمشهد التعاون المجتمعي والتطوع الذي يمثل قدرة وطنية عظيمة عليه أن يتوجه إلى استدامة المدن وتنميتها أكثر من إعمارها بعد كل تأثيرات مناخية.
والحق أن رؤية عُمان 2040 جعلت من الإنسان العماني محور التنمية، وبالتالي فإن البرامج التنموية قد أدمجت العمل التطوعي ومؤسسات المجتمع المدني في الخطط الإنمائية من خلال إشراك الناس باعتبارهم (صُنَّاع تغيير). وعليه فإن العمل التطوعي في عُمان يمثل قدرة مجتمعية ممثِلة للاستثمار في إدارة المخاطر والكوارث؛ فما نشهده من تعاون مجتمعي في التغلب على تأثيرات إعصار (شاهين) قد شهدناه أيضا في الأعاصير والأنواء المناخية التي سبقته، مما يعني أن تنمية فكر العمل التطوعي في عُمان يتأسس وفق الفكر الإنمائي للمجتمع وبناء لُحمة وطنية صامدة، عليها أن تتواكب مع صمود المدن العمانية أمام هذه الأنواء.
فإذا كانت إدارة المخاطر والكوارث الطبيعية تقوم وفق أسس وطنية منطلقة من رؤية عمان 2040، ومتأسسة على فكر مجتمعي قائم على العمل الوطني التطوعي، فإن علينا أن نعيد النظر إلى الخطط العمرانية للوحدات السكانية الحضرية، وأن نعمل معا وفق رؤية تقوم على تقييم الواقع ودراسة المخاطر بُغية الحفاظ على مدننا العمانية باعتبارها وحدات حضارية لها تاريخها المستدام.