محددات القوة والضعف .. للمجتمع المدني
ينظر إلى المجتمع المدني على أنه "واسطة العقد" بين أكبر دعامتين من دعائم الوجود الإنساني؛ هما: الأسرة والدولة، ومعنى ذلك أن المجتمع المدني الذي يتم الحديث عنه هنا؛ لن تتحقق شخصيته الفاعلة، وقدرته على البقاء والتفاعل إلا من خلالهما، فالأولى هي المنشأ، والثانية هي الحاضنة، فالأسرة؛ حيث المنشأ الأول تمثل المناخ الأول لتحقق وجود الإنسان على هذه البسيطة، ومن ثم انطلاقته وتأثيراته المختلفة، على ما حوله في الوجود، وتأثره كذلك بما يحيطه، ولأنها المنشأ فعليها المسؤولية الكبرى لتصويب مجالات التنشئة؛ حتى يكون هذا الوليد سليم العقل والقلب، فيظهر عطاؤه نظيفا صافيا، وأما الدعامة الثانية المحققة لوجوده وبقائه؛ والمحافظة عليه؛ ودعمه، والعمل على تنميته وازدهاره؛ هي الدولة: والتي يستطيع من خلالها أن يبني شخصيته، وأهدافه، ويحقق استقلاليته، ويوظف إبداعاته وإمكانياته المادية والمعنوية على حد سواء، ومعنى ذلك فمتى تحقق للمجتمع هاتان الدعامتان، استطاع بذلك أن يبلور هويته الحقيقية، ويحدد انتماءاته المتعددة، ويسقط من حوله كل ما من شأنه أن يعرقل مسيرته في بناء شخصيته المستمدة من ثوابت الأسرة، ومعززات الدولة، وإجمالا: فالمجتمع المدني لن يكون مصطلحا مفرغا من مضمونه، بل هو واقع حي، وفاعل حاضر، ومساحة من العطاء متى وجد الأرضية الخصبة للعطاء.
وهل المجتمع المدني قضية؛ حتى تطرح للنقاش؟ أقول؛ وبكل ثقة؛ أنها قضية محورية، لأن الأدوار التي يقوم بها؛ في حالة تجسده ووضوحه؛ مهمة جدا للاشتغال التنموي لجميع مفاصل الدولة الحديثة، وانصهار المجتمع المدني في خضم المجتمع، لا يكون للدولة صورة واضحة في تقنين المهام والمسؤوليات لمكونات المجتمع، خاصة إذا أخذ قياس النمو المعرفي والتنموي فيها على أنهما إنجازات محققة للبقاء والاستمرار، فالمجتمع المدني، له دور محوري في نهضة بلاده، فهو بقدر تحرره من المسارات الرسمية التي تنتهجها الحكومة؛ هو في الوقت نفسه يبقى متحررا في العطاء والمشاركة داعما لا متخاذلا لما تذهب إليه المؤسسة الرسمية، نعم؛ قد يكون ناقدا لبعض السياسات التي تقوم بها الحكومة، وهذا من حقه، لأنه مساهم قوي، ومحافظ قوي، وداعم قوي، لكل الاشتغالات التي تتقصاها الورقة الحكومية خدمة للصالح العام، ولأن المسألة مرتبطة ارتباطا قويا بـ "الصالح العام" فمعنى ذلك أن لا يشعر كلا الطرفين بأي غبن من نشاطات الطرف الآخر، فالجميع في خندق واحد، وهذا مما يزيد الدولة بكيانها الحضاري والإنساني قوة وتفاعلا، وإلباسها هيبة وقوة وسط المجتمع الدولي الكبير، وبهذا يمثل المجتمع المدني بثقله؛ وتأثيره، وحيويته النشطة، كواحد من الدعامات الأساسية التي تقوم عليها الدولة الحديثة، والأمثلة واضحة في الدول المتقدمة لماهية الدور الذي يقوم به المجتمع المدني.
يثمن كثيرا – عند النظر إلى تحقق المجتمع المدني في أي دولة - اتساع أفق النظام السياسي، وقدرته على استيعاب مختلف المكونات الداعمة له، وينظر إليه بإكبار وتقدير، وذلك لنواح عدة؛ يأتي في مقدمتها: الرؤية الاستشرافية التي يسعى النظام إلى تحققها على المستوى البعيد، وهي الرؤية التي تسعى إلى تحقيق أكبر قدر من الإنجاز التنموي، والتحقق المدني والسياسي على حد سواء؛ سواء بسواء، حيث لا إفراط للثاني "النظام السياسي" ولا تفريط للأول "المجتمع المدني" وهي رؤية على قدر كبير من الأهمية، تحسب لها الأنظمة السياسية حسابات المكسب والتكلفة، لأنه بقدر مكاسبها الكثيرة والمتعددة، فأيضا تكلفتها كبيرة وعميقة؛ في حالة فقدانها؛ وهذا التوازن لا يعيه إلا النظام الراشد، الذي ليس من اليسير أن يفرط فيه بـ "واسطة العقد" لأنه إذا انفرط العقد وتناثرت حباته، لن يكون من اليسير لملمته بين عشية وضحاها، ولذلك؛ كما نشاهد ونعيش بصورة مستمرة؛ أن كثيرا من الأنظمة السياسية لم تستطع أن تصل إلى توازن هذه المعادلة (الصعبة/ السهلة) ولذلك هي تعيش في جحيم تصدعات وإخفاقات مكونات المجتمع، لأن فيها ما فيها من التعقيدات، الفكرية، خاصة عندما تتداخل فيها مفاهيم العقائد، والمذاهب، والأعراق، حيث تذوب كل هذه النتوءات عند تحقق المجتمع المدني، فهو آلة لصهر مختلف التجاذبات.
يستمد المجتمع المدني قوته؛ كما هو الحال في النظام السياسي؛ من قوة القانون، وتطبيقه على أرض الواقع، واتساع رقعة المؤمنين بأهميته للمحافظة على كل المكتسبات التنموية، سواء تلك التي ينجزها النظام بمؤسساته الرئيسية "العامة" أو بمؤسسات المجتمع المدني التي أنشأها "الوليدة" لتنفيذ خططه، وبرامجه التي يعيشها في حالة تماس مباشرة مع جمهوره العريض، هذه القوة تتيح له التوسع والتمكين في العطاء، كما تجسر له المسافة الفاصلة بين مكونات المجتمع الأخرى والمؤسسة الرسمية، ولذلك يعتب كثيرا على المؤسسات الرسمية عندما لا تبدي ذلك التعاون الكبير مع مؤسسات المجتمع المدني، وترى في نشاطها عضوا منافسا لما تسعى إلى تنفيذه من برامج وخطط، مع أن اختصاصات المجتمع المدني تختلف، وبرامجه تخرج عن الإطار الرسمي، ولكن في ظل الصورة الواضحة لخط التشريع في دعم مؤسسة المجتمع المدني تنصهر الكثير من المعوقات، وهنا يأتي دور وفاعلية المؤسسة التشريعية في هذا الدعم من خلال المراجعة الشاملة والمستمرة للمظلة التشريعية لكلا الطرفين، دون المساس بالاختصاصات التي تتباين مع كلا الطرفين، حتى لا تصل الجهود إلى التداخل والتشابك المخل بالمسار العام للجهود، وهو المسار الذي يتقصى كل جهد مخلص لخدمة الصالح العام للوطن الكبير.
لا شك أن المجتمع المدني يسعى وبكل حيوية ونشاط إلى العودة الدائمة إلى هيكلة مؤسساته الإدارية المختلفة، انطلاقا من رؤية عميقة؛ كما يتوقع؛ تتقصى هذه الرؤية مكامن القوة والضعف في بنيان التنمية في البلد الذي ينتمي إليه، فهو يتخذ من مؤسساته القوة والمنعة، ولأن الأمر كذلك فعليه أن يكون حريصا للانتقاء الصادق لمن يدير هذه المؤسسات، وأن يكون الحسيب والرقيب على مجالس إدارتها التي أقسمت؛ ولو بصورة ضمنية؛ أمام أفراد المجتمع العام بأن تكون الأمينة والصادقة في التعاطي مع وظائف ومحددات، ومهام هذه المؤسسات التي تشرفت بالانضمام إليها، ولن يقبل إطلاقا؛ أو عُد ذلك إخلالا بالأمانة أن يسعى المجتمع المدني إلى مناكفة الحكومة في برامجها، ويغض الطرف عن مؤسساته التي أنشأنها وطالب بإقامتها أن تعبث بالمصلحة العامة على حساب نمو مصالح أفرادها الضيقة، وهذا التوازن في المحاسبة يظل أمرا حيويا ومهما جدا، لكي يحقق المجتمع المدني قيمته المعنوية، والاعتبارية، ويشار إليه بالبنان، ويستحق التقدير والإعجاب.
يظل أكبر معوق للمجتمع المدني ومؤسساته الواهبة نفسها لخير الوطن ومن فيه، هو تنامي الفساد، وانبثاق براعمه السامة من هنا؛ ومن هناك، كما هو الحال لدى المؤسسات العامة، وإذا كانت الحكومة بأجهزتها الماكنة الأمنية والإدارية وهي القابضة بيد من حديد على مثل هذه التشققات في بنيان الدولة، وهي مع ذلك تعاني من منغصات الفساد، فما هو الحال إذن لدى مؤسسات المجتمع المدني، والتي إن تنتصر؛ فهي تنتصر بالمؤسسة العامة، ولذلك فهي محنتها أكبر، ومع ذلك لا تعذر من تجفيف منابع الفساد وتضييق الهوات بين مستويات النخب الاقتصادية والاجتماعية التي تديرها، أو التي تتعامل أو تتشارك معها بصورة أو بأخرى، فـ"الخسة النفسية" مفطورة في البشر؛ بلا استثناء؛ وقابلة للتمدد، كلما أوجدت لها فرصة للنمو والتفرع، وهذه إشكالية نوعية ووجودية في كل المؤسسات، ولا سبيل لردعها وإقصائها في موضعها إلا القانون، يقول مايكل جونستون في كتابه الرائع (متلازمات الفساد - الثروة والسلطة والديمقراطية-) ما نصه: "إن المجتمع المدني أيضا مستعمر من قبل الفصائل النخبوية، وأحزابها السياسية، أو تمزقه التقسيمات الإقليمية، أو العرقية أو غيرها التي تجمع بين كونها عميقة الجذور وذات استخدامات سياسية بين النخب الراغبة بتفريق مجموعات المعارضة المحتملة لإبقائها تحت السيطرة"- انتهى النص -.
أختم هنا؛ بأن المجتمع المدني لا يمكن أن يضع نفسه في خندق "حمالة الأوجه" فهو إن ينطلق ينطلق من رؤى واضحة، ومحددة، وله برامجه واستراتيجياته، واستشرافاته المستقبلية، وهو بذلك داعم قوي لتوجهات الدولة وطموحها، ومساهمتها الحضارية في بنيان المجتمع الدولي.