محافظات جاذبة مولدة للفرص

22 يونيو 2024
22 يونيو 2024

تناولنا في المقال السابق الممكنات التي وضعها المشرع وصانع السياسة العامة للانتقال المدروس نحو اللامركزية وتنمية المحافظات في سياق مجمل الأربع سنوات الماضية من رؤية «عُمان 2040»، وذكرنا أن مجمل هذه الممكنات صنعت زخمًا تنمويًا أبرز هذه الأولوية، وحَشَدَ الوعي التنموي إزاءها، وأن المرحلة القادمة إنما تتطلب النظر إلى بعض التدخلات على مستوى السياسة العامة والاستراتيجية لجعل المحافظات بؤرًا جاذبة؛ بالأبعاد المتكاملة لمفهوم الجذب، وبؤرًا مولدة للفرص؛ في الفرص الاقتصادية وجودة الحياة والفرص الاجتماعية وكافة الأبعاد التي تشكل مفهوم (الفرص). ذكرنا أحد التدخلات الأولى التي يمكن تطبيقها في سياق ذلك؛ وهي تعزيز اللامركزية من خلال السياسات والنظم المرنة، وفصلنا في سياق ذلك سياسات العمل نموذجًا.

نعتقد على غرار ذلك أن هناك أداة أخرى يمكن أن تنشط حركة المحافظات في الجذب وتوليد الفرص؛ وهي خلق أسواق استهلاكية نوعية داخل المحافظات. وإذ حددت الاستراتيجية الوطنية للتنمية العُمرانية في تأطيرها الشمولي نموذجًا اقتصاديًا لاقتصاد كل محافظة، يحدد الكيفية التي تتحول بها ميزتها النسبية إلى عناصر إنتاجية تخدم الاقتصاد والحياة فيها؛ إلا أنه يمكن أيضًا أن يشتغل الاقتصاد المحلي للمحافظات على خلق تجمعات استهلاكية نوعية؛ كأن تركز محافظة بعينها على أن تكون تجمعًا للمؤسسات والورش المعنية بصيانة المركبات وقطع غيارها؛ وأن يقدم هذا التجمع في صيغته التنافسية منتجات نوعية، ويتم دعمه للحصول على وكالات دولية، ويتم تقديم كافة الخدمات التي تسهل اكتمال سلسلة القيمة في هذا التجمع على شكل سوق استهلاكية متكاملة. أو أن يكون في محافظة أخرى تجمعًا نوعيًا لمدينة تعليمية متكاملة؛ تحتضن مؤسسات أكاديمية ومراكز بحثية مرتبطة بمعارفها، ومختبرات متكاملة لدعم طلبتها وأكاديمييها، ومستشفيات نوعية للتدريب والبحث والعلاج - إن كانت تقدم معارف في الطب والتمريض -، ومدارس نوعية متخصصة لتطبيقات التربية، وحاضنات تقانة ومعارف وابتكار يمكن أن تخرج من إطار مشروعاتها المتبناة منتجات ومؤسسات تدعم أسواقها وتنوع اقتصادها. وبالتالي تصبح وجهة جاذبة يُشتغل على الاستثمار كذلك في سلسلة القيمة المحيطة بها لتكتمل كافة عناصر الجذب وتتشكل السوق الاستهلاكية النوعية المتكاملة. وسيعتمد هذا التوجه في عموم المحافظات على ثلاثة أبعاد أساسية: أولها الاتساق مع النموذج الاقتصادي المحدد في الاستراتيجية الوطنية للتنمية العُمرانية، وثانيها التوجه الاستراتيجي للمحافظات بما في ذلك نمو الساكنين فيها وعناصر الجذب الحالية وجدوى الاستثمار في مثل هذا النوع من المشروعات، أما ثالث الأبعاد فيتصل في الكيفية التي يمكن أن تكون بها هذه الأسواق مشروعات نوعية وتنافسية، تبدأ تنافسيتها في الإطار المحلي وتتطور لتشمل الإطار الإقليمي والدولي.

أما التدخل الثالث الذي نقترحه في سبيل تنمية خارطة الفرص في المحافظات وتعزيز الجاذبية فهو تشجيع المحافظات على تبني أفضل ممارسات الاستدامة الحضرية على المستوى (القروي)؛ ونقصد هنا كيفية تشجيعها على الاشتغال على بعض الأحياء السكنية القائمة حاليًا في ولايات هذه المحافظات، وحفز الساكنين بالشراكة مع مؤسسات الإدارة المحلية على الانتقال بهذه الأحياء إلى أحياء مستدامة، ويمكن وضع إطار وطني لمفهوم الحي المستدام، بسماته العُمرانية والمكانية، وأنماط التخضير والتنقل التي لابد أن يتضمنها، ونوعية استخدامات الطاقة فيها، وثقافة الساكنة فيما يتصل بمفاهيم الاستدامة وآليات تكييف سلوكهم لتتوافق مع تلك المفاهيم. ولنقل إن هذا نموذجًا جديدًا مطورًا مما كان يُشتغل عليها سابقًا في إطار تنافس الأحياء في (شهر البلديات) ولكن يراعي الأبعاد والمحددات الجديدة التي دخلت على مفهوم التنمية المستدامة، وتحديدًا استدامة التجمعات السكنية، والتحول نحو جودة الحياة بمفهومها المتكامل.

هناك تدخل رابع يمكن التركيز عليه في سياق تنمية الفرص وتعزيز الجذب كذلك؛ ويتصل بوضع مفهوم لصناعة الترفيه في المحافظات، ونقصد هنا الترفيه بمفهوم الشامل؛ بمعنى تلك الفرص المتاحة على هيئة (مقاصد - مواسم سياحية - أنشطة - ومهرجانات - وفعاليات...) التي تمكن ساكن المحافظة من الاستفادة منها لتخفيف الضغوطات اليومية، وتجديد وتيرة الحياة. ولا شك أن المواسم والمهرجانات التي شرعت المحافظات في تنفيذها خلال العامين الماضيين تحديدًا دعمت اقتصاد الاستهلاك في المحافظات، وعززت حركة الأفراد بين المحافظات نسبيًا. إلا أن التصور الذي نحتاجه على المدى البعيد هو كيفية خلق مقاصد دائمة، تتواكب مع احتياجات الأفراد في المحافظات وتطلعاتهم من ناحية، وتسوق للميزة الثقافية المعنوية للمحافظة من ناحية، وتولدًا سوقًا قادر على التكامل مع الأسواق الأخرى داخل المحافظة. وقد ينشأ هناك تحفظًا حول هذه المسألة نتيجة ما يثار حول جدلية صناعة الترفيه في المنطقة، وهنا نعتقد أن النموذج يمكن التحكم، بل وتحفيز مساهمة المجتمع في اقتراح النماذج المطلوبة، وتمكين مشاركة الأفراد في صنع توجهات وخطط الترفيه المقبول داخل المحافظات.

هذه أفكار متفرقة؛ ومؤكدٌ أن عصف أفكار المجتمع والمختصين بشكل دوري من شأنه أن يولد أفكارًا نوعية؛ والأهم أن تبقى المحافظات مشغلًا كبيرًا دائمًا لاستمطار الأفكار وتحويلها بشكل جاد إلى مشروعات. ومن المهم في سياق خطط التنمية القادمة وأولها (خطة التنمية الخمسية الحادية عشرة) أن يتم التركيز في هذا الشأن على كيفية تعظيم البنى الأساسية المتحققة في هياكل هذه المحافظات، وأن يشجع الاستمرار في استثمار المقاصد التاريخية والتراثية مثلما بدأ في السنوات الأخيرة، وأن تتاح الفرص لإقامة حاضنات الأعمال وحاضنات الابتكار التحويلي لتجسير الفجوة بين أفكار الشباب والدارسين والباحثين وبين تحويل تلك الأفكار إلى فرص اقتصادية تضيف زخمًا اقتصاديًا وتنمويًا للمحافظة.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان