مجتمعات قد تقود التحول العالمي
تبدو التحولات الديموغرافية الراهنة التي يشهدها العالم مؤثرة في قيادة التحول العالمي. سواء فيما يتصل بمعدلات النمو السكاني، أو فيما يتعلق بتحول بعض الاقتصادات العالمية الكبرى نحو الشيخوخة والانخفاض الحاد في معدلات الخصوبة. ذلك أن المسألة لا تتصل بالطريقة التي تدار بها القضية السكانية (الديموغرافية) داخل الدول نفسها؛ وإنما في تأثير ذلك على عمليات التبادل الاقتصادي، ونمو أسواق جديدة وضمورها، والحاجة إلى منتجات وخدمات عابرة للحدود، عوضًا عن حركة المواهب العالمية والتي تبدو اليوم محصورة باتجاهين أساسيين: السياسات الدافعة نحو (حمائية المواهب)؛ وهي تلك السياسات التي تدفع نحو تقييد حركة المواهب العالمية، والتشديد على الإجراءات والنظم والتسهيلات التي تسمح بحركتها في الأسواق العالمية. أما الشكل الآخر من السياسات الذي تتنافس عليه الدول وهو (سياسات جذب المواهب)؛ من خلال تحفيز البيئة المستقطبة عبر البرامج والتسهيلات والتأشيرات والموارد ونظم الإقامة والعيش؛ التي تستهدف استقطاب أكبر قدر ممكن من المواهب في مختلف القطاعات لتحريك العمليات الاقتصادية والتنموية المختلفة. ولو حاولنا القبض على الخط الواصل بين كل هذه الاتجاهات سنجد أنه كامن في التحولات الديموغرافية.
إذن يجدر اليوم بالدول ومخططي السياسات العامة، وراسمي أجندة التنمية وضع المسألة الديموغرافية على أولويات أجندة الرصد والتتبع، ذلك أن هذه المسألة إما أن تكون تحديًا هيكليًا لمسارات التنمية على المستوى طويل الأجل، أو أن تكون أحد عناصر الفرص (غير المرئية) التي يمكن الاستثمار فيها على مستوى السياسات – الخدمات – المنتجات – الأسواق. شكل تضافر الأزمات المناخية، وتباطؤ جهود الحد من الفقر وسوء التغذية، وعودة الأوبئة العالمية بعضًا من عدم اليقين في السنوات الماضية إزاء توقعات النمو السكاني العالمي؛ إلا أن عدة مصادر تجمع أن سكان العالم سيكون بحلول عام 2030 قرابة 8.6 مليار مع بعض التباطؤ في النمو السكاني العالمي ولكنه ليس ذلك التباطؤ الحاد الذي رسمته بعض السيناريوهات. إلا أن التحولات الرئيسية في المسألة الديموغرافية العالمية التي يتوجب النقاش حولها في تقديرنا هي 5 تحولات:
1- دخول العالم إلى مرحلة (الشيخوخة العالمية): تتوقع KPMG أن يتضاعف عدد الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 65 عامًا فأعلى إلى مليار شخص حول العالم.
2- بحسب European Strategy and Policy Analysis System سوف تقسم التركيبة السكانية المستقبلية العالم إلى معسكرين: أحدهما ينمو والآخر يتقلص. الأول، كما هو الحال في إفريقيا جنوب الصحراء وجنوب آسيا (نيجيريا وتنزانيا وإثيوبيا والهند وباكستان، على سبيل المثال). أما الطرف الآخر حيث يتباطأ حجم السكان مثل الاتحاد الأوروبي، ومن المتوقع أيضًا أن تنخفض روسيا أيضًا من 143.9 مليونًا إلى 140.5 مليونًا. على الوجه الآخر تشير توقعات ذات النظام إلى أن الصين بلغت «الذروة» أيضًا وستظل مستقرة عند حوالي 1.4 مليار.
3- تبين الآثار الطويلة الإيجابية لمستويات الرعاية الصحية المرتفعة والنمو الاقتصادي على تركيبة بعض المجتمعات، وعلى أمد العمر، وتقلص الفوارق بين الجنسين فيما يتعلق بأمد الحياة. في كوريا الجنوبية على سبيل المثال تشير التوقعات إلى أن متوسط العمر المتوقع للمرأة سيكون حوالي 90 عامًا. وفي فرنسا ستكون عند 88 عامًا.
4- على مستوى الاقتصادات المتقدمة تبدو اليابان أكثر الدول تأثرًا بالمسألة الديموغرافية والتحولات الناشئة عنها. تتوقع تحليلات Center for Strategic and International Studies أن ينخفض النمو السكاني بين 15 - 25% بحلول عام 2050 إذا لم تستطع اليابان تحقيق تدفقات هائلة لهجرة السكان. على الجانب الآخر ورغم العدد الهائل لسكان الصين، إلا أن التوقعات تشير إلى الفترة بين عامي 2030 - 2050 ستشهد انكماشًا حادًا للسكان في سن العمل، مما قد يؤثر على مستويات النمو والإنتاجية والوضع الاقتصادي بشكل عام.
5 - التحول الخامس والمهم هو الذي تقوده القارة الإفريقية. حيث تحوي اليوم أكثر من 60 ٪ من سكان القارة دون سن 25 عامًا. ما يعني تزايدًا في قوة العمل للقارة الإفريقية خلال السنوات القادمة، مع التوقعات بزيادة النمو السكاني. ورغم التحديات الهيكلية التي تواجهها بعض دول القارة لناحية تأهيل وتمكين الموارد البشرية والاستثمار في المهارات؛ إلا أن المنتدى الاقتصادي العالمي التقط تحولًا نوعيًا في هذا الصدد فإفريقيا هي المنطقة الوحيدة في العالم التي لم تشهد تباطؤًا في استثمار رأس المال الاستثماري. ففي عام 2022 تجاوز قطاع الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا في إفريقيا علامة 3 مليارات دولار لأول مرة، وجمعت 633 شركة ناشئة في إفريقيا مجتمعة 3.3 مليار دولار. وهو ما يمثل زيادة بنسبة 55.1٪ عن 2.15 مليار دولار التي تم جمعها في عام 2021 بواسطة 564 شركة ناشئة في إفريقيا (حسب بيانات المنتدى الاقتصادي العالمي).
إذن ما تفرضه هذه التحولات في تقديرنا هو توسيع إطار النظر للمسألة الديموغرافية، عبر طرح مجموعة من المداخل الاستفهامية في الكيفية التي ستضغط بها المسألة الديموغرافية على مسائل مثل: إنتاجية العمل والعمالة، وقدرة نظم الحماية الاجتماعية على مواكبة هذه التحولات، والأنماط الجديدة المتطلبة لإدماج الشباب في أسواق العمل وفي أنماط المشاركة العامة، وفي نوعية المنتجات والخدمات التي سيفرضها توسع فئة كبار السن، وعن منظومات الطفولة المبكرة والأسس المحددة لجودة خدماتها لتمكين الاستثمار في هذه المرحلة. وعن وضع أطر فاعلة للاستثمار في المواهب والمهارات ليس بصورة عارضة – آنية – وإنما وفق إطار استراتيجي محكم وطويل المدى، وعن سياساتنا تجاه اجتذاب/ هجرة المواهب والعقول والأفكار والمنتجات. وعن قدرتنا تجاه أن نكون أسواقا لتقديم (خدمات ومنتجات) نوعية تشكل ميزتنا النسبية سواء في الصناعة أو السياحة أو قطاع الخدمات. وعن آفاق تعاوننا العلمي والثقافي مع الدول التي تستثمر في بناها الديموغرافية الشابة. ونعتقد في هذا الصدد أن وجود وحدة/ مركز وطني لدراسات السكان والتنمية أصبح ضرورة مرحلية، بحيث يمكّن منظومة السياسات العامة من التنبه إلى الفرص والتحديات التي تفرضها مسألة الانتقال الديموغرافي العالمي، ويضع استراتيجيات بعيدة المدى للاستثمار فيما يُعرف بالعائد الديموغرافي إضافة إلى توجيه بوصلة سياسات الهجرة والمواهب، عوضًا عن التنبيه إلى الاتجاهات العالمية التي ستتشكل وتؤثر بشكل مباشر على السياق المحلي فيما يرتبط بالمسألة الديموغرافية.