مجالات مستقبلية للعمل الخليجي المشترك
خلال مسيرتها الممتدة عبر أربعة عقود؛ حققت مسيرة مجلس التعاون لدول الخليج العربية منجزات مهمة على عدة أصعدة؛ سواء فيما يتعلق بإرساء قاعدة أساسية للعمل الخليجي المشترك، أو في إرساء بعض المؤسسات الخليجية التي تخدم قضايا الاقتصاد والتنمية والأمن والدفاع، أو في إيجاد أرضية للتفاهمات السياسية وصياغة نظرية مشتركة حول (بعض) القضايا التي تمس المنطقة. وبالتأكيد فقد انعكست مجالات التعاون هذه بشكل نوعي على بعض جوانب حياة ورفاه المواطن الخليجي، وأعطت المنطقة ميزة نسبية في محيطها العربي والشرق - أوسطي عمومًا، وحولت المنطقة عمومًا (بالإضافة إلى عامل الموارد) إلى منطقة مؤثرة في صناعة القرار الإقليمي والدولي. في المقابل تفرض اللحظة المعاصرة في تاريخ العالم البناء على هذه القاعدة المتحققة في تاريخ التعاون الخليجي، والنظر بعمق في مجالات جديدة للعمل الخليجي المشترك، بحيث تتعدى هذه المجالات الأبعاد السياسية والاقتصادية إلى بناء مؤسسات وأنماط جديدة تحفظ ميزة المجتمع الخليجي، وتعزز نوعية الحياة فيه، وتجعل التنمية فيه عابرة لحدوده، وتستثمر في إرثه الثقافي لبناء بقية أشكال التنمية والتفاهمات الأخرى.
تتنوع المتغيرات التي تؤثر على طبيعة هذا التعاون، فهناك وضع جيو - سياسي ملتهب يكتنف المنطقة، ولا يمكن للدول الست أن تعزل نفسها عنه، أو أن تكون خارج معادلته، وهناك اقتصاد عالمي يشوبه عدم اليقين والغموض والتقلبات، ويفرض على المنطقة إعادة التفكير في مواردها التقليدية، وفي الكيفية التي تصبح فيها لاعبًا موجهًا في مسارات الاقتصاد العالمي، وهناك مجتمعات فتية داخل هذه الدول تتطلع إلى سياقات أكبر من التعاون، وتستوجب اللحظة الراهنة تعزيز قناعاتها بنظرية مجلس التعاون لدول الخليج العربية، على أن تكون كذلك مشاركة بشكل فاعل في صنع مستقبل هذا الكيان والخطوط العريضة لأشكال التعاون فيه. عوضًا عن قضايا نوعية مثل التركيبات السكانية في هذه الدول، ورؤيتها فيما يتعلق باستقطاب الأيدي العاملة والتنافس على المهارات والعقول، وقضايا مثل مستقبل اقتصاداتها القائمة على أشكال الطاقة التقليدية، وضرورات الانتقال إلى الاستدامة الاقتصادية والبيئة، وتفعيل أنماط الاقتصاد الأخضر. يفرض إرث المنطقة أن هذه القضايا تحتمل بعدين من التعامل، إما البناء على مقاربات مستقلة من خلال سياسات هذه الدول - كل دولة في ذاتها - وإما التعامل مع هذه القضايا من منظور التعاون - الذي نميل إليه - رغم التحديات التي تكتنفه، ذلك أن لكل دولة ميزتها النسبية التي يمكن أن يبنى عليها، ويستفاد منها.
أحد أشكال التعاون التي تتطلب - في نظرنا - تعزيزًا خلال المرحلة المقبلة هو الرصد والبحث الاجتماعي، في ظل تماثل البنى الاجتماعي للمجتمعات الخليجية، وتعرضها لذات المهددات الاجتماعية الناشئة من الداخل والخارج، وفي ظل سؤال الأسرة، وسؤال هوية المجتمع، وسؤال توقعات الأجيال، وسؤال دور القوى الفتية الناشئة في تركيب المجتمعات الخليجية في تصور المستقبل، وسؤال رؤى التنمية الخليجية والتصور الذي تضعه للمجتمعات تركيبًا وهوية، نسأل ما حجم المناقشات العلمية (المشتركة) للمختصين في علوم المجتمع حول هذه الأسئلة البنيوية بالنسبة للمجتمع الخليجي؟ وكم مساحة المؤتمرات والندوات العلمية والبحوث الرصينة التي يمكن الاستناد لها في صنع القرار والتي أسست بناء على جهد مشترك أو غطت فكرة المجتمع الخليجي بشمولها في سياق الأبحاث المعدة والصادرة والمنشورة؟ نعتقد أن وجود مراصد اجتماعية على المستوى الخليجي أصبحت اليوم ضرورة قصوى تفرضها أسئلة الهوية والتركيب بالنسبة للمجتمعات الخليجية، ويمكن أن يكون هناك مرصد خليجي جامع ومشترك تتبناه المؤسسة المركزية لأمانة مجلس التعاون ويجمع أفضل خبراء الاجتماع في المنطقة من باحثين ومفكرين ومحللين وأكاديميين. ويعنى برصد التغير والثبات في حركة المجتمعات الخليجية وأثر ذلك وتأثر ذلك بمختلف عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والسياسية التي تعمل عليها دول المنطقة. وهذا نموذج لا يمكن عزله عن المطالبة أيضًا بوجود مؤسسات بحثية في مجالات أخرى، يسمُها أنها تجمع أفضل العقول في الخليج في التخصصات المختلفة، وتوظف طاقة البحث والابتكار لخدمة صنع القرار الخليجي المشترك.
وفي ظل معطيات ومتغيرات المستقبل المتلاحقة، والتي تنعكس على مختلف أنماط التنمية، وتفرض مراجعة دورية للسياسات والإستراتيجيات، يمكن أن يستفاد من التعاون الخليجي في إنشاء مؤسسة متخصصة في استشراف المستقبل، ويكون لها نطاقا عمل أساسيين: أولهما إجراء مسح الأفق المستقبلي وتصور السيناريوهات وتحديد المتغيرات الأكثر تأثيرًا على مستوى مستقبل المنطقة، والآخر يعنى بتعزيز ثقافة وقدرات استشراف المستقبل للحكومات الخليجية بما يمكننا من تحييد القدر الأكبر من التهديدات والمؤثرات المستقبلية واغتنام فرص المستقبل بالنسبة للمنطقة. وقد تكون هذه الجهود قائمة في بعض دول الخليج، ولكن القصد هنا أن يكون هناك كيان ممكن تستفيد منه كافة دول المنطقة، ويحاكي طبيعة الأنماط السياسية والاقتصادية والاجتماعية في هذه الدول، وينتج معرفة موطّنة تدعم صنع القرار، والمصير المشترك الذي تأسس عليه هذا التعاون. وإذا ما سحبنا أشكال التعاون هذه على التعاون البرلماني، فهناك تشابه نسبيًا - بحسب طبيعة النظم السياسية في الخليج - في آليات العمل والأدوار والمخرجات التي تشتغل عليها البرلمانات الخليجية، وهو تشابه يضع لهذه البرلمانات دورا محددا في عملية المشاركة في صنع قرار التنمية في هذه البلدان، وبعيدًا عن جدلية الصلاحيات نعتقد بفكرة (وجود أكاديمية برلمانية خليجية) تعنى بثلاث سياقات مهمة: أولها تعزيز قدرات العاملين الفنيين في المؤسسات البرلمانية الخليجية، وخاصة في مجالات التشريع ورسم القوانين، وآليات النظر في التجارب المقارنة، وتحليل مصفوفات التشريع، ودمج منظورات استشراف المستقبل في بناء التشريعات، والتشريعات المستجيبة للواقع المتغير، ومنهجيات التجريب التشريعي وغيرها من المعارف التي تعد اليوم أساسًا مهما لعمل المختص في المؤسسة البرلمانية. السياق الثاني مرتبط بتعزيز قدرات ومهارات البرلمانيين أنفسهم، سواء فيما يتعلق بمنهجيات وآليات العمل التشريعي والرقابي، أو فيما يتعلق بإدارة توقعات الناخبين والقواعد الانتخابية والتواصل والتفاعل معها، أو في تطوير المبادرات البرلمانية أو رغبات المشروعات التي يعملون عليها وكل ما يتصل بتجويد عمل البرلمانيين الخليجيين. أما السياق الثالث فيتشكل كسياق بحثي في رصد ومتابعة تطورات المسألة البرلمانية في المنطقة، وتحديد النقاط الحرجة فيها، واستشراف مستقبلها.
قد يكون ما ذكر نماذج أولية مقترحة لتعزيز العمل الخليجي المشترك، ويمكن سرد قائمة غير منتهية من النقاط التي يمكن فيها التعاون، ولكن ما نودّ إيجازه هو أن هذا التعاون كلما بني على قاعدة تطوير الإرث الثقافي، وكلما حاكى الجوانب الاجتماعية والثقافية بمكنته أن يحقق الاستدامة والتطور والتعزيز لعملياته. وهذه هي اللحظة المرجوة لتطوير العمل الخليجي المشترك في تقديرنا.