متّى المسكين الغنوصيّ الأخير
كلّما ذهبت إلى الأسكندرية من القاهرة باستخدام الطّريق الصّحراويّ؛ ترجعني الرّوح إلى غنوصيّة الأسكندرية، الّتي امتدت من الصّحراء الأمازيغية والليبية، تلك الأديرة الّتي انقطع وتبتل فيها الرّهبان لآلاف السّنين، جيلا بعد جيل حتّى يومنا الحاليّ.
وفي طريق الأسكندرية الصّحراويّ وأنا أمر على دير الأنبا مقار في وادي النطرون؛ يشدني الحنين إلى معرفة ذلك الرّاهب المتبتل، أو القدّيس متّى المسكين (ت 2004م)، هذا الرّجل الّذي جاء من القرن الأول الميلادي غنوصيّا وروحيّا، إلا أنّه بجسد زمانه في النصف الثاني من القرن العشرين ميلاديّا، لأعيش فترة مع كتبه ورسائله وتأملاته وشروحه ومحاضراته الرّوحيّة.
متّى المسكين أو يوسف أسكندر، الصيدلاني الّذي ترك الصّيدلة، ويستبدلها بالرهبنة في دير الأنبا صموئيل بجبل القلمون، ثمّ توحد مع سبعة من الرهبان ابتداء في وادي الرّيان، ثمّ في مغارة في دير السّريان، إلى أن استقر به المقام في دير الأنبا مقار، ليصبح هذا الدّير من أهم الأديرة في مصر حاليا.
قد يكون الحديث عن الغنوصية فيها شيء من الحساسية مصطلحا، لكنّها كما يرى مصطفى هندي «هي المعرفة الباطنيّة الّتي تنطلق من عمق الإنسان، ولا تطلب شيئا خارجه»، فالغنوصية «هي فعاليّة روحيّة داخليّة تقود إلى اكتشاف الحالة الإنسانيّة... الكفيلة بتحرير الروح الحبيسة في إطار الجسد المادي، والعالم المادي، لتعود إلى العالم النوراني الذي صدرت عنه».
وارتباط الأسكندرية بالغنوصيّة ارتباط موغل في القدم، كان فلسفيّا كما في الغنوصيّة الأفلاطونيّة، أو دينيّا كما في اليهوديّة الآسينيّة في القرن الثّاني قبل الميلاد، الّذين تجسدت فلسفتهم في الزّهد والرّهبنة، والاهتمام بالرّوح، فلا يأكلون لحوم الحيوانات، وتخلص هدى عليّ كاكه يي في كتابها «الغنوصيّة» أنّ «الغنوصيين المسيحيين الإسكندرانيين اشتركوا جميعا في ضرورة التّخلص من سلطان الأهواء، وتحرير النّفس، وقد وجدوا في اعتقادهم بالمسيحيّة إرضاء لحاجاتهم الروحية والعقلية، وتأكيدا لانقلابهم نحو الغنوصيّة».
وبما أنّ الأسكندريّة عاشت عالمين أو ثنائيتين: الغنوصية الفلسفية في صورها المختلفة الأفلاطونية والهرمسية والأبيقوريّة، والغنوصيّة اليهودية الآسينيّة، إلا أنّ مجيء المسيحية إلى الأسكندرية مع مار مرقس أو مرقص في القرن الأول الميلادي، وتعتبره الكنيسة الأرثوذوكسية القبطية البطريرك الأول لهم، واستمر تقليدهم البابوي حتّى يومنا هذا مع الأنبا تواضروس الثاني ليكون رقم (118)، ولهذا يطلقون على أنفسهم بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسيّة، والكرازة كلمة إنجيليّة بمعنى الدعوة، والمرقسية نسبة إلى مار مرقس الرسول.
هذه الثّنائيّة ارتبطت بالغنوصيّة الأولى، الّتي وجدت بعض نصوصها مع مخطوطات نجع حمادي، وبطبيعة الحال يصعب الحديث حول ثنائيتها هنا في الأديان والفلسفات الأولى، إلّا أنّها ظهرت مع الرمزيات الغنوصيّة المسيحيّة الأسكندرانيّة في القرن الأول الميلاديّ، رغم أنّهم هرطقوا وفق قانون الإيمان المسيحي عموما، أو الأرثذوكسي خصوصا بعد مجمع خلقيدونيّة (451م)، حيث سوف تتشكل الكنيسة الشّرقيّة الأرثذوكسيّة القبطيّة اللّا خلقيدونيّة، والّتي ستصنف لاحقا ضمن اليعاقبة اللّا ملكيين، وارتبطت بالأسكندريّة روحيّا حتّى اليوم.
ومن أهم الرّمزيات الغنوصيّة الأسكندرانيّة في القرن الأول الميلاديّ باسيليدس، وتقوم غنوصيّته على «الثّنائيّة بين الخير والشّر، وأنّ مصدر الخطيئة الهوى، وأنّ مصدره الخارج لا من الدّاخل، فعليه أن يتحرّر بحرمان النّفس من العديد من الطّيبات، فحرموا أنفسهم من الزّواج مثلا، فاقتربوا من ثنائيّة الزّرادشت، وتعذيب الذّات كما في البوذيّة».
ثمّ أتى بعده فالنتيونس وغنوصيّته تقوم على «ثنائيّة الرّوح والجسد، وثنائيّة الإله الخالق، والإله الخيّر الطّيب وهي بذرة الرّوح، وهناك وسط بينهما، تبث ما هو إلهي روحيّ، وبين ما هو ماديّ جسميّ، ولهذا صورة المسيح الجامعة بين الرّوح والجسد».
كذلك أتى بعد باسيليدس الغنوصيّ مرقيون ليقترب من ثنائيّة باسيليدس، «فهناك إله العبرانيين خالق العالم، وهناك إله المحبّة، وهو الإله المجهول، وهو إله المسيحيين، وهو خالق العالم الرّوحيّ».
هذه الغنوصيّة القائمة على الثّنائيّة من جهة، وعلى وجود إله أو حالة في الوسط هي الّتي تتشكل لاحقا مع الروحانيين المسيحيين، ومن ثمّ مع العرفانيين أو المتصوّفة المسلمين، من خلال ثنائيّة الخير والشّر، والمتمثلة في الرّوح والجسد، ووسطيّة النّفس لتلتصق بالإله الأعلى وتحلّ فيه، ويحلّ فيها، فهناك طرف وسط بين الرّوح الأعلى والجسد الأدنى، تجسّدت لاحقا مع الإيمان المسيحيّ في ثلاثيّة الأب والابن والرّوح القدسّ، وغنوصيّا في الجسد والرّوح والنّفس، وعرفانيّا في الظّاهر والباطن والحقيقة، مع ثنائيّة الحرف والرّمز أيضا.
لهذا تشكل مع الأفلاطونيين والمشائيين والهرمسيين قديما، ومن ثم مع العرفانيين المسلمين نظريّة الإنسان الكامل أو الإنسان السّماويّ، النّظريّة القائمة على الخير والشّر من خلال الرّوح والجسد كما عند الرّوحيين، «فالرّوح خالدة لا تموت ولا تفنى بموت الإنسان»، وخالفهم الماديون الّذين يرون أنّ الإنسان هو «هذا الجسم وأجهزته، فيزول ويتلاشى من الوجود بالموت»، إلا أنّ الماديّة لم تخرج عن الثّنائيّة، كالفلسفة الأبيقوريّة القائمة على ثنائيّة اللّذة وهي الخير، والألم وهو الشّر.
ونظريّة الإنسان الكامل الّتي أول من استخدمها من المسلمين لاحقا محيي الدّين ابن عربي (ت 638هـ/ 1240م)، واشتهرت عند عبد الكريم الجيليّ [ت 826هـ/ 1424م] هي تطوّر وتشكل للغنوصيّة من خلال الثّنائيّة من جهة، ومن خلال حلقة ثالوث الوسط من جهة أخرى، ويجمل مرتضى مطهري [ت 1979م] في كتابه «أنسنة الحياة» أهم نظريّاتها إلى ثلاث نظريّات رئيسة: الأولى «النّظريّة العقليّة كما عند ابن سينا، ويرون العقل هو جوهر الإنسان، فالإنسان الكامل هو الإنسان الحكيم، أي الفيلسوف العاقل من خلال إدراكه لكليّات الوجود، ويدرك هيكل الوجود ليعثر على فهم أجزائه، فتكمل نفسه البشريّة عندما تنعكس صورة هيكل العالم في عقل الإنسان، فيكون عقله مضاهيّا للعالم العينيّ، وهذه الحكمة النّظريّة، وبها يرتفع إلى الحكمة العمليّة أي يهمين على غرائزه وقواه الجسمانيّة».
والثّانية نظريّة العشق أي العرفان والتّصوّف، ورقيّ الإنسان الكامل من خلال العشق أي الله، «ويبدأ البحث عن العشق عموديّا بالصّعود إلى المعشوق، ثمّ تستقر أفقيّا، وترتبط بالرّوح لتصعد إلى الخالق، ليصبح الإنسان الكامل هو الله متحدّا معه».
والثّالثة نظريّة القدرة، أي القوّة، «فالإنسان الكامل هو الإنسان المقتدر، وهذه مدرسة السّفسطائيين، والقوّة عندهم هي الحقّ، فعلى الإنسان الكامل بذل الجهد للحصول على القدرة والقوّة، وهذه ظهرت مؤخرا عند نيتشة بمعنى الإنسان الأعلى، وعند غيره الإنسان الأسمى».
نظريّة الإنسان الكامل تشكلت أيضا في تشكلات أخرى كاللّذة، أو الوعي، أو إدراك الذّات، ومدارها على الرّقيّ من الأدنى إلى الأعلى لتحلّ فيه، من خلال إدراك الوسط في ذلك، ولهذا سميت بالإنسان الكامل أو الأعلى أو الأسمى.
فلمّا نأتي إلى متّى المسكين من خلال كتابه «حبّة الحنطة»، وأصله كلمة ألقيت على الرّهبان بدير القديس أنبا مقار في مطلع الصّوم الأربعيني عام 1974م، ثمّ حوّل إلى كتيّب من الحجم الصّغير، وصدر في طبعته الأولى في ست وثلاثين صفحة عام 1977م، ومع صغر الكتيّب إلّا أنّه يلخص غنوصيّة متّى المسكين في فترة مبكرة من حياته، وهو ينطلق من إنجيل يوحنا الّذي ارتبط به، وهو إنجيل غنوصيّ، حيث ينطلق من آية: «من يحبّ نفسه يهلكها، ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية» [يوحنّا: 15/25].
ومتّى المسكين يدور بين ثنائيّة الرّوح (الخير/ الأعلى) والجسد (الشّر/ الأسفل)، مع وسطيّة النّفس، «والنّفس موضوعة بين الجسد والرّوح .... فهي إمّا أن تتحد مع الجسد وتتعاطف معه ضدّ الرّوح، وإمّا أن تتحد مع الرّوح وتتعاطف معه ضدّ الجسد، وهكذا تكون النّفس إمّا جسدانيّة وإمّا روحانيّة»، «والنّفس تصدر عنها العواطف، وتحوي الحياة الجسديّة»، «والذّات هي النّفس»، «والذّات تتحصن داخل الجسد».
أمّا «الجسد بشهواته وغرائزه مخلوق أصلا على غير فساد، ومهيأ ليخضع لقانون الرّوح، وينضبط بالرّوح دون أن يفقد شيئا من شهواته وغرائزه الطّبيعيّة»، لكنّه «هو الموت والفناء»، ومركز الغرائز والشّهوات.
وأمّا الرّوح «هي نفحة من الله، وهي الّتي تجعل الجسد حيّا»، والرّوح «تستقبل التّأثيرات، وتعبّر عنها، وتتصل بالله وتحبّه»، «وتستمد قوّتها وطاقتها من الرّوح القدس مباشرة».
لهذا «هناك صراع بين الرّوح والجسد من جهة، وبين الرّوح والنّفس المنحازة إلى الجسد، لهذا على الرّوح أن تتحرّر من سطوة الجسد، وتتحد مع النّفس، حتّى لا يكون مداره النّفس المتحدة بالجسد، وإنّما النّفس المتحدة بالرّوح»، لهذا تدور النّفس بين ثنائيّة الأبديّة والفناء، «فتتحقّق الحياة الأبديّة إذا انحازت النّفس إلى الرّوح»، أمّا إذا التصقت بالفاني -أي الجسد- تفنى، وإن كانت حيّة في ظاهرها.
وعليه «النفس هي العدو الّذي يقف ضد خلاص الإنسان إذا ارتبطت بالجسد، فعليها أن تتحرّر بالرّوح»، لكن «لا يمكن الجمع بين حريّة النّفس المتعاهدة مع الجسد، وبين حريّة الرّوح المتحدة بالرّوح القدس، فعليه أن يتحرّر من حريّة الخطيئة ليخلص بالرّوح»، وهنا يربط متّى المسكين الخطيئة بالوصايا العشر.
وهنا أيضا تظهر نظريّة الإنسان الكامل عند متّى المسكين لتكون أقرب إلى نظريّة العشق أو الصّعود من الأسفل إلى الأعلى، ويرى أنّ طرق التّرقي أو الصّعود الرّوحيّ تبدأ من لحظة الميلاد من خلال المعموديّة، حيث يمتزج الجسد بالماء، والماء رمز للروح، ثمّ التوبة من الخطيئة [تطوّر لاحقا إلى سر الاعتراف وهو نوع من إيذاء النّفس لتخلص من أنانيّة الجسد]، وأرقى التّرقي محاصرة الذّات [أي النّفس] من خلال كبتها وإبطال سلطانها، ثمّ تجريدها وإماتتها.
وإبطال وكبت الذّات ليس سهلا؛ لأنّ «أخطر منطقة هي المنطقة بين النّفس والرّوح، حيث تختلط على الإنسان أعمال النّفس بأعمال الرّوح، في هذه المنطقة يعسر كشف العمل النّابع من النّفس، المستمد من الذّات والجسد والهوى، وبين العمل النّابع من الرّوح المستمد من الرّوح القدس»، لهذا «هناك منطقة بين الرّوح والنّفس وهي الضّمير، فهو بالرّوح يدرك حقيقة النّفس وغرورها وكبريائها».
وعليه عمليّة التّرقي تتحقّق «لمّا تبدأ بالرّوح في الإنسان، حيث يبدأ الضّمير بالاستجابة لفعل الرّوح، فتتحرّك الرّوح داخل الجسد وتنمو وتتشدّد وتتقوّى، فيبدأ الجسد العتيق في التّقهقر، فتشتد الإرادة الرّوحيّة على الإرادة الجسديّة، فتبدأ أعمال الجسد والشّهوات بالخمول»، وهنا يحدث الاتّحاد مع الرّوح القدس علويّا لا التّجسد، فالاتّحاد من الأسفل إلى الأعلى.
هذه الصّورة الغنوصيّة عند متّى المسكين القائمة على الثّنائيّة والوسط، ثم رقي الإنسان الكامل أو الإنسان الرّوحي، هي حالة أقرب إلى الغنوصيّات الأرثوذوكسيّة في الجانب العرفانيّ والصّوفيّ في اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، وإن كان لها مقارباتها أيضا في الأديان والفلسفات الأخرى، إلّا أنه بقدر ما يكون هناك من تقارب في مدارها؛ في المقابل تتعدّد في رؤيتها وصورها وتشكلاتها.
المراجع (غالب النّصوص نقلت بتصرّف):
حبّة الحنطة، متّى المسكين، مطبعة دير القدّيس أنبا مقار، مصر/ القاهرة، الطّبعة الحادية عشرة، 2019م.
أنسنة الحياة في الإسلام، مرتضى مطهري، ط دار الإرشاد، لبنان/ بيروت، الطّبعة الثّانية، 1441هـ/ 2020م.
الغنوصيّة، هدى عليّ كاكه يي، ط دار قناديل، العراق/ بغداد، الطّبعة الأولى، 2021م.
الغنوصيّة وتأريخ الأديان، دافيد جي روبرتسون، ترجمة: محمّد عبد الله، ط آفاق المعرفة، السعودية/ الرّياض، الطّبعة الأولى، 1444هـ/ 2022م.