«متسمرون»؟

01 نوفمبر 2023
01 نوفمبر 2023

أُقلب الصحف الألمانية. تكاد تكون المرة الأولى التي أرى فيها الصحف الألمانية تنقل الجانب الفلسطيني من القصة منذ بداية الأحداث. بعد مجزرة مخيم جباليا نشرت Der Spiegel فيديو يصور أثر الدمار الناتج عن الإطاحة بمربع سكني كامل، ما تسبب في استشهاد العشرات، يحمل المقال تعليقا على لسان الفلسطينيين «ثمة جرحى في كل مكان. لا نعلم ماذا نفعل!» وهو موقف يُمثل الصحافة الألمانية بجدارة التي يبدو أنها ولأول مرة منذ بدأ التصعيد لا تعرف ماذا تفعل. إننا نقرأ أشياء من قبيل «نقد الحكومة الإسرائيلية ليس نقدا لإسرائيل» كما تكتب الـZeit. كما كتبت الصحف المختلفة عن الأذى الذي يتعرض له مواطنو الضفة على أيدي المستوطنين المتشددين.

بالطبع ليس هذا بالموقف الذي ينتظره المرء من قوى لها وزنها في القضية، ولكن تغير الموقف ولو قليلا قد يكون مبشرا. ثم أسأل نفسي: مبشرا بماذا؟ ما الذي يُمكن أن يحدث بعد ليتغير أي شيء. إنهم حتى الآن يرفضون أبسط شيء، الشيء الذي لا يحتاج لأي حساسية أخلاقية لتأييده: وقف لإطلاق النار. لكن هذا -حتى هذا- يبدو بعيد الاحتمال.

لا يزال أصدقائي في ألمانيا يتحفظون عن قول أي شيء عبر الهاتف، وتأجيل أي نقاش يخص القضية لحين اللقاء وجها لوجه. توقف البعض عن مشاهدة الأخبار، لكن لا يبدو هذا إلا تنصلا من المسؤولية، مسؤولية أن نرى، وواجب أن نحدق بالجثّة كما يكتب سمير سكيني.

يركع شاب أمام جثة قريبه (لا نعلم صلة القرابة تحديدا، ولكن الحرقة التي يصرخ بها تخبرنا شيئا عن تاريخهم عن قرابتهم وعن ثقل الفقد) «يا الله» يصرخ، آخر يذهب ويجيء دون حيلة صارخا «أولادي الثلاثة ولا واحد يا الله». يبدو أن هذا هو النداء الذي يتكرر مرة بعد مرة. النداء الذي لم يبق سواه. الحناجر هي ما يقاوم الآن، سواء في أصوات الحداد التي تُعلن البقاء في الوقت نفسه «بظلني عايش»، أو أصوات المتظاهرين حول العالم التي تحاول أن تُحرّك وتستفز، غالبا دون جدوى.

«متسمرين؟» هكذا صرنا نسأل بعضنا حين نتصل بالأصدقاء. لا نسأل ماذا تفعلون، فالجميع يعرف ما يفعله الجميع. ماذا بأيدينا سوى التسمر أمام التلفاز، ورؤية العالم يحترق.

متسمرون أيضا أمام هواتفنا، نُقلب «الريلز» بحثا عما يُقربنا أكثر من واقع المعاناة اليومية. ننظر في عيونهم. نسمع أصواتهم. ونشعر بعجز مضاعف.

أنا حاليا في زيارة إلى عُمان، تُخيفني فكرة العودة إلى ألمانيا والاضطرار للمشي على قشور البيض طوال اليوم. يشتغل الناس هناك اليوم بالتحدث عن معاداة السامية، عمن لا يؤمنون بحق إسرائيل في الوجود، عمن يجب تنظيف البلاد منهم لأنهم يقفون ضد «قيم الشعب الألماني». خائفة من العداء، من العنصرية، ومن تناقص حظ الفلسطينيين في الحصول على حياة أفضل خارج بلدهم. هذا إن رغبوا بعد في ذلك.