ماذا تُعَلِّمُنا الحرية؟

30 مارس 2022
30 مارس 2022

بالرغم من بساطة السؤال أعلاه، وحتى عادِيّته، إلا أن في الإجابة عنه ثمة الكثير من التعقيد التي تتصل به وبطبيعة فهمه وتصور الإجابات المتعددة الوجهة والمكان بصدده.

مفهوم الحرية يأخذ تعبيراته في نواح متعددة وينعكس في أكثر من وجه من وجوه الحياة الإنسانية. فالحرية هي الوجه الآخر من هوية المسؤولية الأخلاقية للإنسان باعتباره كائنا أخلاقيا بالدرجة الأولى، أي كائن تأخذ أفعاله في الخير والشر الطابع الأخلاقي ذاته الذي ينبع من حريته ومسؤوليته.

فمبدأ الاختيار الإنساني في الفعل والترك، أي الحرية، هو الذي يمنح الطابع الأخلاقي لأفعال الإنسان وبطبيعة الحال فإن مفهوم الأخلاق هنا يتسع للمعنيين؛ الإيجابي والسلبي لتلك الأفعال.

وعلى هذا النحو، يمكننا القول: إن الاجتماع السياسي للبشر هو أبرز مجال تتجلى فيه ردود فعل الالتزام بقيم الحرية، ليس فقط من حيث الالتزام بها فحسب ( فالحرية غالبا في هذا المجال لن تكون في حكم المعطيات بل في حكم الحقوق التي يتم السعي إليها والكفاح من أجلها) وإنما كذلك في الاستمرار بالحفاظ عليها بعد اكتسابها كحق إنساني في المجال العام.

ذلك أن استحقاق وجود الحرية في المجال العام ينعكس في أقنعة متعددة قد لا تعكس هويتها المنضبطة حتى ولو كانت شعارا يلهج به الجميع.

فالمجال العام من حيث كونه فضاءً للاجتماع البشري الذي تمثل الدولة اليوم أرقى تنظيماته في الأزمنة الحديثة، فيما تمثل تشريعاتها لذلك المجال انعكاسا لطبيعة الحرية وهويتها في الوقت ذاته، ستُعَبر تمثيلاتها عن المختبر الحقيقي لقياس أثر الحرية وفعالية معاييرها في المجال العام.

هذا يعني أن التفكير في تدابير سوية لنظم إدراك الحقيقة المتصلة بالحريات في المجال العام هو من أهم الاستحقاقات التي ينبغي التفكير فيها من حيث إن التفكير وأدواته هو الخيار الوحيد لمقاربة هذا المجال دون أي آليات أخرى لايمكن أن تفضي إلى تمثل حقيقي للحرية.

ذلك أن الامتناع على فعل الحرية في مختبر مجالاتها التي تتصل بالحياة العامة سينعكس سببا حقيقيا في أي تعطيل أو تخلف يعيق الانتظام المدني للحياة العامة باتجاه التقدم المضطرد والفعال والمطور باستمرار لجودة الحياة.

نعرف مثلا؛ أن الحرية في مجال البحث العلمي، هي التي تقود لكافة النتائج الإيجابية في تطوير الحياة العامة من خلال منهجيات بحث حرة تدل على تلك النتائج، لكن، سنعرف في الوقت ذاته، أن أي حظر على حرية البحث العلمي أو نتائجه – مهما كانت تأويلات ذلك الحظر - في أي مجال من مجالات العلوم الطبيعية والإنسانية سيؤثر على حقيقة نتائج المعرفة في السياق المخصوص، وبالتالي سيؤدي إلى غياب النتائج الحقيقية للأبحاث المطورة لجودة الحياة، لذا فعلينا أن نعرف، مثلا، أن نتائج البحث العلمي النزيه قد لا تكون لها علاقة بنوايا الباحث أو ميوله ومواقفه في الحياة، لكن ضرورة الالتزام بتلك النتائج – أكانت متوافقة مع هوى الباحث أم متعارضة معه – هي الضرورة الأكثر تعبيرا عن سوية الالتزام بالحرية وبالتالي الأنفع للناس ولتطوير نمط حياتهم.

كذلك يعتبر الإعلام من أكبر المجالات التي تمثل تحديا حقيقيا لاختبار فعالية الحرية وأثرها، حيث إن الإعلام يعكس حساسيةً مؤثرة جدا في تصورات عامة الناس، باعتبارهم، نظريا على الأقل؛ مستهلكي الحقيقة المفترضة في الخطاب الإعلامي. وهذه الحساسية التي تتصل بالحرية في المجال الإعلامي لها مفاعيل خطيرة على حياة الناس: (مستهلكو الحقيقة) متى ما كانت حساسيةً مُزَيِّفة لما يحدث في الواقع.

وبالجملة، هناك مجالات كثيرة في الفضاء العام يفضي الالتزام بقواعد الحرية فيها إلى تحسين أحوال الحياة ( مهما ظن البعض أن إخفاء الحقيقة العامة قد تخدم مصلحة الناس)! هكذا يمكننا القول: إن ما تعلمنا له الحرية يظل حاجة متجددة وضرورية لجودة الحياة وترقية المجال العام باستمرار، فاليوم في ظل الواقع الذي تفرضه قوانين ومنظومات ثورة المعلوماتية والاتصال تظل الحرية هي أقصر الطرق للوصول إلى الحقيقة، فيما لا يفيد إخفاء الحقيقة في ظل ذلك الواقع المكشوف.

وإذا تصور البعض أن هناك إمكانية لتجاوز الحرية كشرط شارط لتحسين المجال العام، وتوهم أن اللحاق بالتطور العالمي يكمن فقط في تقليد ما وصل إليها ذلك العالم ؛ فحاله: " كمن يقصد البحر وهو يستدبره" بحسب العبارة الشهيرة لأبي حامد الغزالي!

محمد جميل أحمد كاتب من السودان