ما يجري في الخليج يتجاوز التطبيع
((يتجاوز التطبيع في الجغرافيا الخليجية حدوده ليكون بوابة لتحقيق أجندات في لحظة تشهد فيها المنطقة تحولات فكرية))
"مما يستوجب توضيحه بداية، أنني هنا لست ضد أي أيديولوجية يتم الإشارة إليها في المقال، وإنما ضد التوظيف النفعي لها، ومن حقي أن أقلق على الهوية الخليجية إذا ما سارت التطورات المتلاحقة بنفس الوتيرة الراهنة في ظل تفجر نقاشات فكرية حول قضايا الثيولوجية واللاثيولوجية والعلمانية... في مرحلة تنتج بيئات تسهل تحقيق الأجندات النفعية، وما أكثرها الآن، سأدلل على ذلك بتطورات واقعية حتى أبرر قلقي لعلني أتمكن من الوصول للوعي السياسي المستهدف".
*
هذا المقال تتمة لمقالي الأسبق المعنون باسم "تحولات فكرية داخل المنطقة الخليجية.. غير بريئة" وهو يحمل صفة الاستعجال السياسي، لدول المنظومة الست، بعضها عاجلا، والأخرى آجلا، وقد ترددت كثيرا في عنوانه حتى استقر بي المقام عند العنوان أعلاه، رغم أنه يحتمل الكثير من العناوين المهمة، أبرزها "مستقبل صراع الهويات في منطقة المنظومة الخليجية" و"الهجرة اليهودية التاريخية الثانية نحو الخليج العربي" ولم أجد من خلال متابعاتي العميقة لهذا الملف، أن هناك لو حد أدنى اهتمام بمثل هذه المآلات التي تتأسس الآن بصورة علنية، وفي صمت عجيب لحكومات المنطقة.
ومهما كانت الإكراهات التي وراءها، إلا أن هناك فرصا مواتية الآن لإدارتها حتى لا تترسخ في البنيات الخليجية، خاصة في الدول الأيديولوجية الثقيلة الوزن، وندعوها هنا إلى الانتباه من توجهات بعض الدول التي لا يشكل فيها العامل الثيولوجي وزنا مجتمعيا عميقا من المنظور التاريخي، فهي أسهل الدول تحولا وانعطافا، وأكثر استهدافا، وقد تحققت فيها بعض الأجندات تحت ضغوطات سياسية وأمنية غير مسبوقة، لا تجعلها ترفع رأسها لتفكر في المآلات المقبلة، وحالها هنا، ينطق وكأنها غير مستهدفة بها، رغم أنها تتخذ منها مركزا للتأسيس والانطلاقة منها لمحطيها الخليجي.
وما يجري في بعض أجزاء الجغرافيا الخليجية يتجاوز التطبيع، لكنه يتخذه بوابة لتحقيق الأجندات، والعبور للمنطقة، وما يتزامن معه من تطورات وتحولات فكرية، يكشف ما ينتظر دول المنظومة الست من تحديات مقبلة على الأجل المتوسط، كأقصى حد، وقد أشرت في مقالي الأسبق سالف الذكر، إلى بعض التحولات الفكرية وإقامة بعض المؤسسات التي تهدف إلى ترسيخ التحولات داخل المجتمعات الخليجية بالتدريج، وبعضها قد تم فعلا أقامتها في بعض العواصم الخليجية، وسنشير إلى أبرزها، مع تقاطع أفكار تستهدف العواصم الخليجية، في النقاط التالية:
- إقامة رابطة المجتمعات اليهودية في منطقة الخليج العربي في فبراير2021، ويخطط لإقامة فروع لها في بقية الدول الأخرى، وستعمل الرابطة وفروعها أن يكون لضيوف الخليج الجدد، محاكمهم الخاصة وقوانين الأحوال الشخصية الخاصة بهم، ومحكمة للنزاعات التجارية "تصريحات رئيس الرابطة".
- إطلاق مؤخرا موقع العازبين اليهود في منطقة الخليج، وسيكون هذا الموقع مخاطبا لكل من ينتمي لهذا المكون الديموغرافي في العالم، شريطة أن يوافق العيش في الخليج.
- إطلاق النقاشات عبر التواصل الاجتماعي وغرف التطبيقات المختلفة في الخليج حول قضايا متعددة في الدين والسياسة والعلمانية والإيمان والإلحاد بجرأة ودون خوف، في وقت تتزايد حالات الإلحاد في عواصم خليجية بصورة مقلقة.
- استهداف المنطقة الخليجية فيه موجة للإباحة الجنسية بتأطير أيديولوجي جديد تحت تسمى "الجندرية" وتبني المنظمة الدولية وثيقة تحاول تمريرها عالميا، تقر حقوق وحريات لا تقرها الشرائع السماوية.
- تجاوز بعض العواصم الخليجية السماح للآخر بممارسة شعائره، إلى الترويج والتبشير لها مع امتلاكه لكل الإمكانيات المالية والنفوذ الإقليمي والدولي في مرحلة خليجية تشهد فيها الرابطة السياسية بين الحكومات والمجتمعات متغيرات جذرية بسبب الضرائب والرسوم ورفع الدعم الاجتماعي.
وما أشرت إليه من نقاط عامة تكشف ما أود استنطاقه، وتجعلني أطرح ثلاثة تساؤلات أساسية تحتاج إلى إجابة، وهي: من يقف وراء مثل تلكم التحولات بأفكارها وبنياتها المؤسسية؟ وما هي استشرافاتها السياسية والديموغرافية والثيولوجية؟ وما الحل الخليجي العاجل على مختلف المستويات؟
خرجت من متابعاتي وتأملاتي لتلكم التحولات في مضامينها واستهدافاتها الثلاثية سالفة الذكر، بأنها مرتبطة ببعضها البعض بخيوط خفية، وأن توقيت ظهورها قد استغل أو برمج مع الأزمة المالية في الخليج، وتداعياتها الاجتماعية، والمخاوف الأمنية للدول الخليجية من الكذبة المصطنعة استخباراتيا لما يسمى بالتراجع العسكري والأمني الأمريكي في منطقة الخليج، بمعنى، أنها ليست تلقائية أو وليدة الانفتاح الخليجي بسبب الأزمتين المالية والاقتصادية، وإنما مخطط لها بدقة، والآن يظهر نتائج التخطيط، ونجاحه.
وكنت قد كتبت مقالا يوم الأربعاء 17 ابريل 2019، نشر محليا، بعنوان "إحياء اليهودية.. المشهد المخيف يا أهل الخليج" ويمكن الرجوع اليه عبر محرك جوجل، أنقل منه، ما ذكرته عن إنشاء ما يسمى بوزارة العدل الإسرائيلية، دائرة من عدة سنوات، لحصر الممتلكات اليهودية في كل الدول العربية، مع تكثيف مراكز البحوث الإسرائيلية جهودها في إعداد ملفات عن ممتلكات اليهود التاريخية في الخليج، وكذلك التشكيلات القبلية اليهودية، وتتحدث المصادر عن خريطة مرسومة على عملة معدنية إسرائيلية "لأرض إسرائيل" تشمل أجزاء من دول الخليج ودول عربية أخرى، وكلها تعاني الآن من فوضى غير خلاّقة، ومن سياسات مالية واقتصادية أضعفت مجتمعاتها.
وهنا تساؤل تحليلي، وهو، هل نتوقع أن يرفعوا مبدأ العودة إلى هذه الأراضي أم التعويض عنها؟ لو رجعنا للنقاط سالفة الذكر، كلها في مجملها، سنجد الإجابة واضحة، والمثير أن بعض العواصم تفتح لهم الأبواب على مصاريعها، بينما الأخرى تظل تقاوم، وينبغي أن تقاوم بكل قوة ذكية، وبخلفية الوعي السياسي الذي ينتجه هذا المقال بجزئيه الأول والثاني، ليس من جهة عدم التطبيع فقط، وإنما لتجنب صراع الهويات في المنطقة، حتى يشغلها داخليا مجتمعاتها، ويكون جسرا لتحقيق الأجندات الأجنبية الجديدة.
وذلك من منظور، أن ما يتم تأسيسه الآن سيشكل المستقبل، وهاجسي الأكبر هنا، إعلان حالة القلق المرتفعة على منجز السلم المجتمعي الخليجي، والتعايش السلمي لتعدد مكونه الفكري والاجتماعي، وفي حيثياته – أي هذا المستقبل – ينذر بصراع وجودي حتمي بين الهوية الخليجية، وطغيان الهويات الدخيلة للمنطقة التي تمتلك المال والنفوذ السياسي، ويقف مع بعضها مجموعة قوى عالمية وإقليمية وحركات راديكالية، أبرزها الأمم المتحدة نفسها، من خلال وثيقة ستحاول فرضها على العالم، تقلب مفهوم الأخلاق والقيم رأسا على عقب، وستمارس كل الضغوطات على الدول لتغيير قوانينها الوطنية.
وعندما نقول إن التطبيع في بعض مفاصل المنطقة ـ قد تجاوز مفهومه وأهدافه، فإنني أشدد على ذلك بقوة، بدليل، ما تعلنه رابطة المجتمعات اليهودية في منطقة الخليج، من أنها ستعمل على زيادة العائلات اليهودية في منطقة الخليج، وقد أنشأت موقع "العازبين اليهود في منطقة الخليج" وفق المحددات التي أشرت لها سابقا، فالموقع الإلكتروني سيكون الوسيط لتحقيق الرغبات، وضمانة العيش، وممارسة هويتهم اليهودية في الخليج، وفق تصريحات رئيس الرابطة إبراهيم نونو، الذي أوضح أيضا أن الرابطة في الخليج ستؤسس وكالة اعتماد لطعام الكوشر في دول الخليج الست.
ولدواعي الاختصار، نكتفي بالأدلة القاطعة سالفة الذكر، فلن أتمكن من عرض كل ما توصلت إليه في عملية بحثي عن أجندتهم الوجودية التي تتجاوز التطبيع، وهي كافية لدق ناقوس الخطر الثلاثي التي أضلاعه "الدول، الحكومات، والمجتمعات، في الخليج، في ظل تسابق البعض في فتح أبوابها لهم من مقتضيات خارج سياق التطبيع، إلى مسارات تهويد كل شيء حي وجامد، فهم يملكون المال والنفوذ، ومعهم السياسة الدولية، في مرحلة خليجية منشغلة بقضايا الباحثين والضرائب والرسوم ورفع الدعم الاجتماعي، وقضايا الإيمان والإلحاد، وما يعيشه الكثير من الشباب الخليجي من حالة القلق الإيماني في ظل الثورة التكنولوجية ومستقبلها القريب، وهذا القلق مرده إلى ضعف تأطيرهم، لذلك لن نستغرب مما نسمعه ونقرأه من ارتفاع نسبة الإلحاد المخيفة في بعض دول المنطقة.
وأقترح تشكيل لجنة رفيعة، ومتعددة الاختصاصات، لدراسة هذه الملف بكل عناصره سالفة الذكر، ورسم خارطة بحجم التحديات والإكراهات المقبلة، وكيف مواجهتها، وفي مقال سينشر قريبا في محتوى خليجي متخصص بالشأن الخليجي، طالبت فيه بالتفعيل العاجل لما اتفق عليه قادة دول المجلس الخليجي في قمة الرياض الأخيرة من العمل الاجتماعي الجماعي لمواجهة التحديات، واقترحت عقد قمة اجتماعية خليجية استثنائية، وعلى بلادنا أن لا تنتظر المبادرة الخليجية، فإدارة طبيعة المرحلة الراهنة وآفاقها من المنظورين الاجتماعي وبنيته الفكرية الفوقية ومعالجة قضاياها الآن، تشكل كبرى الأولويات الوطنية لما أشرت في الملف بجزئيه الحالي والأسبق، لأن عندنا قوة ناعمة، لابد أن نحافظ عليها، ونخشى من الاختراقات الخارجية، والضغوطات العالمية التي تقف داعمة لها.
•كاتب متخصص في الشأن الخليجي