مأساة العرب
منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي وعالمنا العربي يمر بصراعات وأزمات متلاحقة في وقت كان العنوان الأكبر هو ظهور أفكار ثورية وحركات راديكالية ذات طابع قومي تمثل ذلك في الصراع العربي الإسرائيلي وحرب الجزائر وثورة اليمن وهي قضايا وجدت مناصرين لها في معظم أقطارنا العربية رغم ما صاحبها من انقسامات بين معسكرين أحدهما يناصر الأنظمة الثورية الراديكالية والآخر يدافع عن بقاء نظم الحكم التقليدية القديمة وفي سبيل ذلك انقسم العرب حول نظامين إلا أن القضية الفلسطينية كانت موضع إجماع الطرفين.
بعد مرور أكثر من سبعين عامًا وقد شهد العالم العربي حراكًا سياسيًا واجتماعيًا كبيرًا حينما ظهر النفط بكميات اقتصادية هائلة وراحت كل دولة تخطط لبرامجها التنموية بما يحقق أحلام شعوبها نحو اللحاق بركب الحضارة المعاصرة وكان نصيب نظم الحكم القديمة من هذه الثروات لا يقل عن النظم الحديثة (الثورية) التي شهدت ثورات وحركات اجتماعية استبشر الكثيرون بقدرتها على تهديد النظم القديمة بينما راهن الجميع على دور الشعوب العربية التي انحاز معظمها إلى الفكر القومي ذي الطابع الراديكالي.
لقد جرت مياه كثيرة خلال العقود الماضية وخصوصًا عقب أحداث 2011 ولم يلتفت البعض إلى أن النظم الجديدة (الجمهورية) كانت أكثر هشاشة مما كنا نتوقع بعد أن انهارت هذه النظم ودخل بعضها في أتون حروب أهلية حصدت آلاف البشر وانهارت برامج التنمية في التعليم والاقتصاد وغيرها من المرافق وقبل ذلك كله كانت دولة كبيرة كالعراق قد أدخلها حكامها في مغامرات سياسية وصراعات إقليمية طالت أكثر من عشر سنوات ورغم ذلك فقد استقوت على جيرانها حينما أقدم صدام حسين في مغامرة غير محسوبة على ضم الكويت ضاربًا عرض الحائط بكل المبادئ والقوانين الدولية التي تحكم العلاقات مع دول الجوار، وكان الثمن فادحا لدرجة أن أستُبيحت العراق وفقدت الكثير من مقوماتها الاقتصادية والبشرية والعمرانية فضلا عن وحدتها واستقلالها على الرغم مما كانت تملكه من ثروات طبيعية تفوق كثيرًا معظم الدول العربية.
لم تسلم بعض النظم الجمهورية الأخرى من هذا المصير البائس، في سوريا واليمن وليبيا وأخيرًا السودان ومصير دول أخرى ما يزال معلقًا في طريقه إلى هذا المصير البائس والسؤال الذي يطرح نفسة: هل أخطأت شعوبنا حينما انحازت إلى النظم الجمهورية؟ أم أن القضية ليست جمهورية أو ملكية وإنما الانحراف عن الحكم الرشيد كان وراء كل هذه المآسي. ليست المفاضلة بين جمهورية وملكية وإنما المفاضلة بين سياسات رشيدة تنشد النماء والخير والعدالة وفق برامج تنموية تستهدف رخاء الشعوب بصرف النظر عن شكل الأنظمة، فلم تكن الشعوب مخطئة حينما انحازت للنظم الجمهورية وإنما كانت مخطئة حينما أسلمت مقاليد أمورها إلى حكام استفردوا بالسلطة دون حسيب أو رقيب في غيبة مؤسسات تشريعية ورقابية.
المقارنة بين الأنظمة الجمهورية والأنظمة القديمة (الملكية أو الأميرية) تبدو واضحة للعيان حيث الطفرة الاقتصادية والاجتماعية من خلال مجتمعات مستقرة حققت نموًا كبيرًا في كل مناح الحياة، وكان العنوان الأهم لكل هذه المجتمعات هو التعليم والاقتصاد فقد شيدت الجامعات والمؤسسات الأكاديمية وحركة الابتعاث إلى الدول المتقدمة لدرجة أننا نلحظ اليوم أن على رأس كل هذه المؤسسات التنموية جيل من الشباب الذين درسوا أو تدربوا في أوروبا وأمريكا وحتى اليابان وقد عادوا جميعا نراهم يديرون المؤسسات في بلادهم وقد حققوا نجاحات هائلة وهم موضع فخر واعتزاز من شعوبهم.
المقارنة بين النظم الثورية والنظم التقليدية تتجاوز كثيرًا المسميات وإنما العبرة بما تحقق من طفرة كبيرة حصدت ثمارها الشعوب التي تعيش في ظل النظم التقليدية بينما النظم التي اختارت الثورات كوسيلة للإصلاح قد غرقت في بحار متلاطمة من المشاكل والعثرات المتلاحقة التي لا تزال قائمة. واللافت للنظر أن الشعوب قد انخرطت في أتون حروب أهلية يموت فيها الناس على قارعة الطريق كل يوم وكل فريق يرفع شعار (الله أكبر) وكأننا نعيش في عالم العصور الوسطى بينما الفقر والجهل والمرض يحصد الناس كل يوم.
لا أعرف ماذا سيكتب المؤرخون عن واقع العالم العربي المعاصر، ماذا سيكتبون عن حكام اختاروا الموت لشعوبهم، ماذا سيقول التاريخ عن حكام راهنوا علي الموت بدلا من رهانهم على الحياة؟
أنا على ثقة من أن هؤلاء جميعا لم يقرأوا التاريخ ولم تمسهم غواية المعرفة ولم يتذوقوا شيئًا من الفنون والآداب.
أكتب هذا المقال وما يزال الحزن يعم وطننا العربي الكبير فما تزال الدماء تسيل في شوارع وحارات بعض أوطاننا العربية وما يزال الناس يموتون، إما بسبب الحروب أو المرض أو الجهل إنها الكوميديا السوداء التي لا خلاص منها إلا بعون الله ورحمته.