مأساة الدماء ملهاة الأحزاب
يتساءل المرء عن محفزات العنف وحاضناته في العالم اليوم بعد أن فشلت كل الوسائل نفسيا واجتماعيا من تجفيف منابع العنف ومكامن الجريمة، حتى القانون لم ينجح في تقييد وتحجيم محفزات العنف مجتمعيا بعد قرون من وضعه وتغييره وتكييفه حرصا على سلامة أرواح الناس ومقدرات الدول (وإن استطاع في تقليل معدل الجريمة). مقالة اليوم لن تتقاطع مع الجرائم الكبرى كتصنيع الحروب وخطط التهجير والتصفية فهي أوضح من أن تخفى، وأصعب من أن تختصر في مقالة كهذه، لكن الحديث هنا عن جرائم السلاح اليومية المتداولة الصادمة، أتذكر على سبيل الاستئناس موقفا شخصيا صادفني أثناء إقامتي في إنجلترا ؛ ذلك أنني كنت أحاول شراء سكين صغيرة للمطبخ، وبعد جولات في كثير من المحال مع صعوبة وجودها وغرابة اختفائها من السوق صادف أن وجدتها أخيرا في أحد المحال موثقة بقيد ثقيل وكأنها قطعة ألماس نادرة، سألت البائعة عن تلك التحفة، وكانت معروضة بثمن بخس، لكن حفظها بتلك الطريقة ثم ندرتها جعلها عزيزة مطلوبة، طلبت البائعة مني تعبئة استمارة متضمنة عنواني وصفتي وبيانات كثيرة مرفقة بضرورة إبراز إثبات هويتي الشخصية، غادرت لأعود في يوم لاحق مع الوثائق المطلوبة لأفوز بسكين المطبخ! كان الأمر مستغربا حتى عرفت أنها احترازات أمنية جديدة تقنينا لامتلاك السلاح الأبيض بعد تفشي استخدامه في أعمال العنف والشغب، تفكرت في العنف ومصدره وأنا أتخيل أن يمكن للكرسي، والمطرقة وقنينة العطر وحتى اليد المجردة أن تشكل أدوات جريمة! كيف لا؟ ودفع إنسان من علٍ لهاوية يفقد بها روحه ما هي إلا جريمة.
استعدت شريط هذا الحدث متابعةً أحداث هذا الأسبوع في بريطانيا مع تجدد أعمال العنف في شوارع بريطانيا، مساء السبت، مما أدى إلى إصابة عدد من أفراد الشرطة خلال محاولتهم التصدي للاضطرابات المستمرة في أعقاب مقتل 3 فتيات صغيرات بمدرسة في مدينة ساوثبورت البريطانية (شمال إنجلترا) الاثنين الماضي طعنا على يد مراهق يبلغ من العمر 17 عاما، من مواليد مدينة كارديف في ويلز.
الحدث صادم وحزين ليس فقط من حيث مسوغات العنف والسعي للقتل( التي لم تعرف أسبابها حتى الآن) ولا لألم فقدان حياة أطفال بهذا الشكل العشوائي بسكين حاول حاملها قتل ما يزيد على عشرة أشخاص بينهم بالغون أصابهم جميعا وقتل منهم ثلاثة، ولكن الصدمة الحقيقية هي في استغلال الحزب اليميني المتطرف هذه الحادثة للتحريض والشحن العاطفي المجتمعي ضد حزب العمال وسياسة الهجرة في بريطانيا، حيث التقط بعضهم خيط الحادثة ناشرا إشاعة مفادها أن القاتل المراهق مهاجر سوري مسلم، ثم تنتشر هذه الإشاعة لتجد أصداء لها على مواقع التواصل الاجتماعي، ولك أن تتخيل نشرها من قبل الملاكم الأولمبي البريطاني السابق أنتوني فاولر ليحصل على 4 ملايين مشاهدة عندما اتهم «رجلا سوريا» بارتكابه حادثة الطعن الجماعي! ثم يستغل زعيم اليمين المتطرف تومي روبنسون الحادثة للتأجيج ضد سياسات حزب العمال والتعاطف مع موضوع الهجرة في بيان نشره على منصة «إكس»، إن الحشد العنيف كان «مبررا» مدّعيا أن الدافع هو مخاوف تتعلق بالهجرة، رغم فرار روبنسون من المملكة المتحدة يوم الأحد ليضع نفسه بعيدا عن متناول السلطات البريطانية؛ حيث كان من المقرر أن يمثل أمام المحكمة في إجراءات ازدراء مزعومة سابقة كذلك ضد المهاجرين.
بيان الشرطة البريطانية حدد أن المراهق المشتبه به من مدينة كارديف، وقد قدم إلى ساوثبورت قبل عدة سنوات مع عائلته دون ذكر اسمه وبياناته بداية الأمر تمسكا بقانون حماية الأطفال، لكن تم الإعلان لاحقا نقضا للإشاعة السابقة التي تسببت بالكثير من أعمال العنف ضد المهاجرين عموما والمسلمين على وجه الخصوص، وتأكيدا أنه سيبلغ الثامنة عشر خلال أسبوع واحد ليتبين أن أكسل روداكوبانا ولد في كارديف عام 2006م بعد أن انتقل والداه المسيحيان من رواندا.
مجموعة أفراد على أرض الواقع تحرض ضد المهاجرين، ومجموعات موجهة على وسائل التواصل الاجتماعي، تحذيرات من الشرطة لتجنب التصادم مع المظاهرات المقررة في مجموعة من المدن البريطانية هذه الأيام وأعمال شغب وعنف موجهة من قبل اليمين المتطرف لإشعال فتيل التمرد على سياسات الهجرة وحزب العمال على وجه الخصوص، مظاهرات أخرى انقسمت عن الأولى بين الإنجليز والإيرلنديين (بعد إعلان أن المشتبه به أصلا من كارديف) من جهة، وبين المسلمين والمهاجرين من جهة أخرى (بعد التحقق أن المشتبه به من أصول راوندية وديانة مسيحية).
المؤسف هنا ومع كل هذه التشعبات أن حادثة قتل ثلاث فتيات صغيرات وإصابة غيرهم لم تعد هي الأهم، بل إنها صارت هامشية مع تنافس الأحزاب وصراع العرقيات، مؤسف ومأساوي كيف يمكن إشعال نار شعبية لا تهدأ من شرارة كهذه، أما رمي المسلمين بكل جريرة في الغرب ليس أمرا مستغربا، وسيبدو مألوفا مع الصراع الدولي والشأن الفلسطيني الذي فكك الكثير من أوهام إسرائيل والغرب، لكن الغريب استساغة أي حزب من الأحزاب السياسية إشعال كل هذه النار انتصارا لفكرته وحزبه ومجموعته حتى وإن كان على خطأ، بل حتى وإن كانت على جسر من الدماء والفرقة والتفكك المجتمعي.