مأزق الاقتصاد...قصور في النظريات أم حيرة في التطبيق؟
د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي
أرسل لي أحد الأصدقاء مقطعا لمقابلة أجرتها إحدى محطات التلفزة الأمريكية مع الخبير المالي والاقتصادي العالمي، محمد العريان، وهو مصري درس في جامعتي كامبريدج وأكسفورد ويعمل في عدة مؤسسات أكاديمية ومالية في أمريكا وأوروبا. كان العريان يرد في المقطع على سؤال عن أسباب اتساع الفجوة أو عدم المساواة inequality في الثروات في أمريكا وغيرها من بلدان العالم. وقال في رده على السؤال إنه حين بدأت الأزمة المالية العالمية في أمريكا عام ٢٠٠٨ اتخذ مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي عدة إجراءات، أهمها تخفيض سعر الفائدة. وقال العريان: إن قرار خفض سعر الفائدة كان أشبه بحبوب مسكّنة لمرض يحتاج إلى علاج شامل. وأضاف: إن تخفيض سعر الفائدة كان يجب أن يكون لفترة قصيرة فقط، لكن مجلس الاحتياطي الفيدرالي لا يمكنه تحفيز الاقتصاد من خلال استخدام أدوات مالية مثل الصرف مباشرة على تجديد وتطوير البنية الأساسية أو لزيادة إنتاجية العمالة والاقتصاد الأمريكي. وحسب رأي الدكتور محمد العريان فإنه مع تخفيض سعر الفائدة وجد بعض الناس في أمريكا أن ثمة أصولا ثمينة متاحة للشراء، و في مقابل ذلك هناك سيولة نقدية متوفرة وبإمكانهم الاقتراض من السوق بفائدة منخفضة لشراء تلك الأصول. ويقول العريان: إن استمرار سعر الفائدة منخفضا لمدة طويلة أدى إلى توسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء مما زاد من عدم المساواة في الثروات في أمريكا. وقال إنه بطبيعة الحال لم يكن مجلس الاحتياطي الفيدرالي يهدف أو يريد خلق ذلك الوضع من عدم المساواة.
أثار ما قاله محمد العريان في المقابلة استغرابي، لأنه يخالف النظرية التي كنت أعرفها عن علاقة الاستثمار بسعر الفائدة، فسألت أحد الأصدقاء الذي هو أكثر مني خبرة بالسياسات النقدية، فقال: إن كثيرا من الدراسات ذكرت كذلك أن سياسة التيسير الكمي quantitative easing التي تعني زيادة السيولة النقدية في الأسواق قد زادت من الفجوة وعدم المساواة في توزيع الثروات. والسبب في ذلك أن المضاربين، خاصة في أسواق المال، استفادوا من توفر السيولة بفوائد منخفضة للاقتراض من أجل المضاربة وليس من أجل استثمارات حقيقية، الأمر الذي أدى إلى تحقيقهم لأرباح طائلة دون إضافة جديد إلى الاقتصاد، كما لم يؤدِ ذلك إلى خلق فرص عمل جديدة. وللتذكير فإن التسهيل الكمي هو أداة غير تقليدية في السياسة النقدية الهدف منها تشجيع الاستثمار، حيث تقوم البنوك المركزية بشراء الأوراق المالية طويلة الأجل، مثل السندات والصكوك، مما يوفر سيولة في السوق تتيح للمستثمرين والمضاربين الاقتراض بفائدة منخفضة.
أعود الآن لأبين سبب استغرابي مما قيل من أن تخفيض سعر الفائدة قد أدى إلى توسيع الفجوة وعدم العدالة في توزيع وامتلاك الثروات. فحسب النظرية الاقتصادية هناك علاقة عكسية بين سعر الفائدة ومعدل الاستثمار. أي أنه كلما ارتفع سعر الفائدة ارتفعت تكلفة الاستثمار والإنتاج، وبالتالي انخفض الطلب على الاقتراض وقل الاستثمار. وكلما انخفض سعر الفائدة كلما أقبل المستثمرون على الاقتراض وبالتالي زاد حجم الاستثمار، وهو ما يعني زيادة النمو الاقتصادي، الذي يؤدي في الغالب إلى إيجاد مزيد من فرص العمل، وبالتالي إلى زيادة في الدخول، لاسيما بين فئة العمال الذين يتم توظيفهم في الوظائف الجديدة. إلا أنه حسبما أوضح الدكتور محمد العريان فإن استمرار بقاء سعر الفائدة منخفضا لفترة طويلة أدى إلى زيادة في عدم العدالة في توزيع الثروات، و في ذلك ضرر على المجتمع والدولة أكبر من الفائدة المتوقعة من زيادة الاستثمارات. وإذا أضيف إلى ذلك أن انخفاض سعر الفائدة وزيادة السيولة في السوق تؤدي في الغالب إلى ارتفاع معدل التضخم في أسعار السلع والخدمات إلى درجة قد يلتهم معها التضخم الثروة الناتجة عن الزيادة في الدخول. ومعلوم أن أكثر المتضررين من التضخم في الأسعار هي الفئات محدودة ومتوسطة الدخول من المجتمع. هذا بالإضافة إلى أن انخفاض سعر الفائدة في السوق المحلي، قد يؤدي بالمودعين إلى البحث عن أسواق أخرى لاستثمار أو إيداع مدخراتهم، أي إلى أسواق ذات عوائد أكبر أو فوائد أعلى. ما ينطبق على انخفاض سعر الفائدة من ناحية المنافع والأضرار ينطبق على سياسات اقتصادية أخرى. فبعض السياسات التي تهدف مثلا إلى النهوض بقطاع الصناعة قد تسهم في زيادة النمو في القطاع، لكنها قد تؤدي إلى ضغط على ميزان الحساب الجاري وميزان المدفوعات نظرا للحاجة التي ستنشأ إلى استيراد معدات أو مدخلات وسيطة تستخدم في الإنتاج الصناعي، الأمر الذي قد يعرض العملة الوطنية للضعف، وذلك شبيه بالحالة التي تعاني منها الليرة التركية، لاسيما في السنوات الأخيرة. كذلك الوضع عند التوسع في قطاع الإنشاءات والبنية الأساسية التي تحتاج إلى استقدام عمالة من الخارج، مما قد يؤدي من جهة إلى الضغط على المرافق والخدمات العامة داخل البلاد، وإلى زيادة في التحويلات النقدية إلى الخارج من جهة أخرى، وفي ذلك أضرار كبيرة على الاقتصاد. هذا بالإضافة إلى سياسات ومشاريع أخرى قد تكون مفيدة في أحد الجوانب الاقتصادية، لكن قد تكون لها آثار ضارة من جوانب اقتصادية أخرى أو من جوانب اجتماعية أو بيئية.
نسوق تلك الأمثلة للتدليل على أن القرارات الاقتصادية يجب أن لا تخضع فقط للنظريات والقواعد العامة، وإنما يجب مراعاة آثارها الجانبية ومدى تقبل الأفراد وعامة المجتمع لها، ومن هنا تأتي أهمية ما يعرف بالاقتصاد السلوكي. كذلك من المهم معرفة أو تقدير الآثار الاجتماعية طويلة الأجل للسياسات الاقتصادية قبل أن يتم اتخاذها، و منها موضوع الفوارق في الثروات المشار إليه أعلاه، أو الأثر على سعر صرف العملة، أو مقدرة البنى الأساس والخدمات العامة على تحمل الزيادة في عدد السكان نتيجة استقدام أعداد كبيرة من العمالة من الخارج، إلى غير ذلك من آثار اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية. غير أن ذلك لا يعني ذلك مطلقا عدم تخفيض سعر الفائدة كأداة لتحفيز الاستثمار، أو عدم تحفيز قطاع الصناعة من أجل نموه، أو عدم استقدام عمالة أجنبية للعمل في المهن والتخصصات التي لا يقبل عليها المواطنون أو لا تتوفر الأعداد الكافية منها في داخل البلاد. لكنه يجب أن تكون كل السياسات والخطوات التي تطبق، موزونة وفي إطار زيادة المنافع وتقليل التكاليف، فالقرارات الاقتصادية أشبه بالمركبات الكيميائية التي تصنع بمقادير معلومة بدقة. ولكي تكون القرارات الاقتصادية سليمة يجب أن تكون حصيلة لنقاش ولتبادل الأفكار حول فوائدها وآثارها الجانبية بين كل الجهات والمؤسسات المعنية، وليس قرار جهة واحدة.