لي الذراع .. مفترق القوة والضعف
ينظر إلى سلوك وممارسة "لي الذراع" على أنه واحد من الأساليب الخسيسة في التعامل بين المجموعة الإنسانية، ولا يقبل إليها أحد عنده ذرة من ضمير، أو سحنة من كرامة، لأنها تخرج عن ما هو متفق عليه في شأن مختلف العلاقات السوية القائمة بين كل الأطراف، وبالتالي فإن خرجت الممارسة عن غير ما هو متفق عليه، ومقبول عرفا وقانونا؛ فإنه بذلك يسقط في هاوية الرذيلة، وتذهب الخسة أكثر في شأن ممارسة "لي الذراع" على أنها تمارس في أجواء متلبدة بغيوم المآسي، والضعف، وقلة الحيلة، ولذلك تزهر فيها الأنانية، واستغلال المواقف؛ وبالتالي تظل صورة "لي الذراع" صورة مشوشة للبهجة الإنسانية التي يراد لها أن تكون حاضرة وداعمة للنمو والازدهار، وليس العكس.
تذهب مفردة "لي" – حسب المعاني المطروحة في الشروحات في المعاجم وغيرها - إلى الالتواء، أو الانعطاف، والميلان، والمماطلة، وتذهب إلى معانيها غير الظاهرة إلى الكذب، والخداع، ومجانبة الحقائق، وربما إلى التخفي عن المواجهة، ويقاس على معانيها الكثير مما هو لا يتفق مع الصحيح، والصدق والأمانة، ولذلك يقال أيضا: "مسكني من اليد التي تؤلمني" وهي بهذا المعنى استغلال الضعف؛ كيف ما كان هذا الضعف ممثلا في المرض، أو المصيبة، أو الفقر، أو الجهل، أو عمى البصر، وعمى البصيرة، فهذه المواضع وغيرها ممن يتقفاها أولئك أصحاب النوايا السيئة، وأصحاب التوجهات الظلامية، وأصحاب اجترار المواقف المأزومة، وكل ذلك لتحقيق مصالح خاصة، بعيدا عن النور، فالنور أمان للنفس، ورؤية مشرقة شفافة، أما أساليب "لي الذراع" فهي بعيدة كل البعد عن ذلك، وتمارس على نطاق واسع، وعلى مسمع ومرأى من الجميع، وبالتالي فـ "لي الذراع" كممارسة معروفة وغير غائبة، ويأتي تعبير "دس السم في العسل" واحدة من التضمينات التي يذهب معناها إلى مفهوم "لي الذراع" وتزهر نبتتها أكثر في أية بيئة يكون فيها القانون معطلا عن الأخذ باستحقاقاته الماكنة، سواء هذا القانون يمثله نص مجمع على ضرورته، أو قيم متعارف على أهميتها، أو نظم إدارية أملتها الضرورة لوجودها، وبالتالي فعندما يتجاوز كل ذلك، ويختزل في مصلحة فرد، أو جماعة معينة، أو نظام سياسي، فبذلك تصبح الحياة أمرا مشاعا لا يأمن بقاء سلامتها، وأهميتها لحياة البشر، سواء مساحة هذا الأمان تستقصي كل المسافات عبر جغرافية العالم، أو في جزئيات معينة تضم مجموعة، أو مجموعات من البشر.
تستغل في العادة الظروف المفاجأة لممارسة "لي الذراع" على الطرف الأضعف، قد تكون هذه الظروف طبيعية، كالكوارث الطبيعية مثل الزلازل، والأعاصير، وقد تستغل الظروف السياسية كالقلاقل، والمظاهرات، والتشنجات المجتمعية المختلفة، وقد تحدث نتائج للاحتلال العسكري، مثل الفقر، وتصدع البنى المجتمعية والأساسية، حيث تأتي القوى الكبرى بحقائبها المتضخمة بالمال، وبالمواقف السياسية المناصرة أو المحايدة لترجيح كفة ما على حساب أخرى، فيظل استمراء الفعل المشين قائما حتى تتحقق الغايات السيئة التي تأتي على الطرف الأضعف بالويل والثبور، ولو بعد حين، فـ "لي الذراع" يمثل نوعا من الانتهازية الموسومة بقوة ما، فعلى المستوى الفردي؛ قد تكون قوة مادية، أو قوة وجاهية، أو قوة مستمدة من منصب إداري، حيث توظف هذه القوى كلها في شأن واحد -غالبا- وهو المصلحة الشخصية الصرفة، إلا إذا عبرت عن قوة عسكرية أو اقتصادية كبيرة تمثله دولة/ دول؛ حينها تذهب إلى المصلحة العليا لتلك الدولة/ الدول، وقد تجتمع قوى مختلفة لتحقيق هدف واحد، يدفعه الطرف الأضعف، من خلال ما يمارس عليه من ضغوط لا قبل له بها لا تحملا، ولا دفعا، فيسلم بالأمر مستسلما مكرها، لا حول له ولا قوة.
تمثل القوة في بعديها السياسي (المفاوضات) والاقتصادية (استغلال السوق) والعسكري (فرض الأمر الواقع بقوة السلاح) من أكثر الأساليب في مفهوم "لي الذراع" وتدخل كقوى فاعلة لتوظيف هذه الأبعاد كلا من الفرد والجماعة، ومن المؤسسة والمنظمة، ومن الوحدة (الدولة) والتكتل (مجموعة القوى/ سياسية- اقتصادية) كما تدخل في الصراع أيضا مجموعة المساومات الإقليمية والدولية، ذات المصالح المشتركة، وقد تدخلها قوى مستفيدة من تأزم المواقف، لتضرب على الوتر الحساس، حيث يمارس كل هؤلاء على الطرف الآخر هذا النوع من الضغوط لتركيعه، واستسلامه، حتى يتحقق المطلوب، مُستخدَما في ذلك كل أنواع الترهيب والترغيب على حد سواء، وتستمر الممارسة بهذه الأبعاد في كل بقاع الدنيا دون استثناء، وفي كل الثقافات في أشكالها المختلفة: الاجتماعية، والدينية، ولا يستثنى من ذلك أي كائن بشري على هذه البسيطة، متجاوزا في ذلك كل القوانين، والأعراف، والقيم، والنظم، بوعي تام لحقيقة هذه الأسس، أو بمغالطات متعمدة لحقيقة ما تذهب إليه، ويحدث ذلك عبر التاريخ الإنساني، وهذه واحدة من الإخفاقات التي تقع فيها الإنسانية "مع سبق الإصرار والترصد" حيث تظل المصلحة الشخصية على مستوى الفرد والمجموع فوق كل اعتبار.
السؤال: من يدفع تكلفة "لي الذراع"؟ ولأن هذه التكلفة لم تأت وفق سياقات الحقوق الواجبة، أو المعترف بها، فإنها بلا شك يدفع ثمنها الجميع، على مستوى الفرد والجماعة، كمحصلة نهائية لهذا "الاسترقاق" غير المباشر، ولذلك تعمل الأنظمة السياسية سياجات ومصدات، وجدرا، وحدودا مانعة ماكنة حتى تخفف من تأثيرات الخسائر في حالة وقوعها في مزالق "لي الذراع" وخاصة اليوم في عصر تتوغل فيه الرأسمالية في كل مفاصل الحياة اليومية سواء على مستوى الفرد أو المجموع، ويضم المجموع هنا الدول، والأنظمة، والمنظمات، وعموم التكتلات في بعديها السياسي والاقتصادي، وعندما نأتي للبعد الاجتماعي فالمسألة تأخذ بعدا آخر في هذا النوع من الممارسة، ذلك أن البعد الاجتماعي بعدد أفراده وتنوعهم تزهر فيه ممارسات "لي الذراع" لما يضمه من حشود مترامية الأطراف، حيث يحدث فيما بينها ما يحدث من مآس، وظلم، وتسلط القوى المسيطرة على الضعفاء والمساكين، فتنتهك من خلالها الأعراض، وتشترى الذمم، وتداس الكرامات، وتزهق الدماء، ويظل اللاعب الأقوى في كل ذلك هو هذا الإنسان الفرد حيث "نسي الطين ساعة أنه طين حقير فصار تيها وعربد" ومتى وصل إلى أوج العربدة بدأ يمارس أساليب "لي الذراع" على من هم أضعف منه، حيث يتم استغلال الحاجة، إلى المال، إلى الوظيفة، إلى الترقي، إلى التوصية، إلى تحسين الوضع وغيرها الكثير، مما يقع فيها الضعفاء، ويتصدرها الانتهازيون، وأصحاب الضمائر التي رانها الكدر، والقسوة، والنرجسية.
يطرح وعلى نطاق واسع مفهوم المعالجة بالصدمات -كما جاء في كتاب (عقيدة الصدمة) لمؤلفته (نعومي كامل)- كأحد وسائل "لي الذراع" المعتمدة في العالم، ويظهر ذلك عندما تجتاح الكوارث بأنواعها المختلفة دولة ما، أو تجمع إنساني ما، حيث يأتي المنتهزون تحت ذريعة المساعدات، أو الإغاثات الإنسانية، وهي الخاضعة لحقيقة "دس السم في العسل" حيث تبدأ بعد ذلك أساليب "لي الذراع" ومما يؤسف له حقا في مثل هذه المواقف أن يجد هؤلاء المنتهزون لمثل هذه الظروف من الأقلية الحاكمة "الأوليغارك" في كثير من الأنظمة السياسية من يسهل لهم الأمر، واليد الحاضنة فتمكنهم من موطئ قدم ما، قبل أن تبدأ ممارسات "لي الذراع" بعد ذلك، والأهداف معروفة، ولا تحتاج إلى كثير من التوضيح، ولعل ما جاء في قول مايكل جونستون في كتابه (متلازمات الفساد -الثروة والسلطة والديمقراطية -) ما يغني على الشرح، حيث يقول ما نصه: "أهم حقيقة بالنسبة لفساد حكومة الأوليغاركات والعائلات هي أن النخب الاقتصادية والسياسية الطموحة لا تشعر بالأمان. ففي مناخ من التناحر وانتشار الفرص السريعة النمو والضعيفة مؤسسيا يقوم أولئك ببناء دعم شخصي يمكنهم من استغلال الدولة والاقتصاد في وقت واحد، وحماية مكاسبهم ومصالحهم بكل وسيلة ممكنة".
يبقى القول أن "لي الذراع" سلوك إنساني بامتياز، وبقدر قربه إلى نزاعات الفطرة، إلا أنه يبقى سلوك مذموم، ومحارب، ومن يمارسه لا ينم عن شخصية محترمة مع ذاتها قبل الآخرين.