لن أكون مثاليا... لكن سأستمع إليك
في باريس من عام 2008م، حضر الصديقان ترافيس كالانيك، وجاريت كامب فعالية لي ويب (LeWeb)، المؤتمر التقني السنوي الذي تصفه صحيفة الإيكونوميست البريطانية بأنه «حيث يجتمع المتمردون على المألوف لرسم، وقيادة المستقبل»، وفي إحدى ليالي الشتاء الباردة خلال ذلك المؤتمر، لم يتمكن الصديقان من الحصول على سيارة أجرة تقلهما للفندق، السؤال الذي راودهما هو: «ماذا لو كان بإمكانك طلب خدمة التنقل بالضغط على زر من هاتفك المحمول؟» وفي تلك الليلة ولِدت فكرة أوبر تكنولوجيز (Uber Technologies) الشركة الناشئة الأكثر قيمة على مستوى العالم في حينها، والتي أدى ظهورها إلى تعطيل أعمال وسائل النقل التقليدية، وهيمنت على سوق خدمات المواصلات في جميع أنحاء العالم، ولا تزال حتى يومنا هذا الشركة الأكثر جدلا، بسبب صمودها الفريد أمام الخلافات المستمرة داخليا، والانتكاسات المالية، وتحديات بيئة الأعمال، فما الذي جعل من نموذج أعمال شركة أوبر تكنولوجيز محط أنظار المفكرين، والمتابعين للشؤون الاقتصادية، والتجارية على مدى العقد، ونصف العقد الماضيين؟
تعالوا نعود للبدايات، أنشأ كالانيك وكامب شركة أوبر تكنولوجيز في سان فرانسيسكو في عام 2009، دخلت سوق خدمات التنقل الحضري بعدد محدود من السيارات لتقديم خدمة التنقل السريع بالحجز عبر التطبيق الإلكتروني الذي يتيح تعريف الموقع بنظم المعلومات الجغرافية، وتحصيل الأجرة تلقائيا من البطاقة المصرفية المدرجة في حساب المستخدم، مما ضمن سهولة وبساطة تقديم الخدمات، ويُعد ذلك في مقدمة الأسباب التي سرّعت من انتشار أوبر، وزيادة الإقبال عليها. شرعت الشركة بعدها في التوسع خارج سان فرانسيسكو، وفتحت فروعا لها في نيويورك، وسياتل، وبوسطن، وشيكاغو، وكذلك عبرت حدود الولايات المتحدة الأمريكية إلى باريس، حيث ترسخت فكرة أوبر تكنولوجيز لأول مرة في أوروبا في يوليو 2015م، وبلغت قيمتها السوقية 51 مليار دولار.
لكن الإبحار في عالم الأعمال ليس هينا دائما، ففي أبريل من عام 2017م، فتحت أوبر أبوابها المالية لأول مرة أمام شركة بلومبيرج العالمية للخدمات الإخبارية، والإعلامية، والمعلومات المالية، وأفصحت عن خسارة عالمية من أعمالها في الصين قدرها 3.8 مليار دولار للعام المالي 2016م، أربك هذا الخبر العديد من شركائها، والمساهمين، والمتعاملين، إلا أنه وبحلول العام التالي، أذهلت أوبر محيط الأعمال والاستثمار حين حققت مكاسب استراتيجية عالمية، إذ حصلت على شركاء من ذوي الثقل الاستراتيجي في آسيا، وعاودت صعودها رغم أن التحديات الداخلية حينها كانت قاسية، وعصفت بالشركة وقياداتها سلسلة من الصعوبات التي اختبرت وجودها بشكلٍ مصيري، إذ شاع منشور في وسائل التواصل الاجتماعي عن الممارسات غير المهنية لعدد من موظفي شركة أوبر رفيعي المستوى، ودعا مجلس الإدارة إلى إجراء تحقيق داخلي، أصبح يُعرف فيما بعد باسم «تحقيقات هولدر» نسبةً إلى قائد فريق تقصّي الحقائق المدّعي العام الأمريكي الأسبق إريك هولدر، أسفر التحقيق عن صدور (47) توصية تستهدف تحسين المستوى التنظيمي، والثقافة المؤسسية، وبيئة العمل.
وبناءً على هذه التوصيات، وصل دارا خسروشاهي إلى منصب الرئيس التنفيذي لشركة أوبر تكنولوجيز، ليبدأ معه مرحلة «إدارة التحولات الكبرى»، مستفيدا من خبرته الإدارية والقيادية من منصبه السابق كرئيسٍ تنفيذي لشركة أكسبيديا Expedia واتجهت الأنظار نحو الشركة والقيادة الجديدة، وخرجت الكثير من التحليلات الاقتصادية والتجارية بشأن المسارات التي يجب على الشركة أن تنتهجها، لكن الرئيس التنفيذي المحنك لم يتبع أيا منها، في المقابل سعى إلى إعادة صناعة رؤية الشركة وغاياتها الاستراتيجية، وأعاد تشكيل كينونتها لتبدو فعليا كشركة تقنية تربط العالمين المادي والرقمي من أجل تسهيل حركة المستفيدين، مع وضع اعتبارات كوكبية أخرى في صميم عمليات الشركة.
تشير الأدبيات المتعلقة بإدارة التحولات إلى أن هناك ثلاثة مستويات في تحفيز نجاح التحولات المؤسسية الكبرى، وتشمل الإطار الاستراتيجي، والعمليات، والثقافة المؤسسية، ويعد التحول في العمليات من أسهل المستويات الثلاثة، والتي غالبًا ما تكون مدفوعة بالرقمنة، ولا تعتريها مقاومة كبيرة، أما المستوى الاستراتيجي، والثقافي فهما حجر الزاوية، لأن التقدم في تحقيقهما يعد الأساس في تطوير الهيكلة الوظيفية للمؤسسة، وذلك ابتداءً من توجيه الموارد المالية، والأصول، وإدارة الوقت، وحسن استغلال عوامل التمكين المتمثلة في رأس المال الاجتماعي، ومجموعة المهارات الفردية المتميزة، والطاقات، والعقليات الإيجابية التي يمكنها أن تسهم في إعادة اكتشاف فرص جديدة للتغيير الممكن، وقياس الأثر من تجربتها، لدعم صناعة القرار.
تعالوا نُسقط هذه المبادئ على تجربة أوبر تكنولوجيز، ورحلتها القصيرة نسبيا في عالم الأعمال التجارية القائمة على التكنولوجيا، سنجد بأنه خلال مرحلة التأسيس والتوسع المبدئي، واجهت أوبر مقاومة شرسة من قطاع النقل الحضري التقليدي، ومن الهيئات الحكومية التنظيمية، وتعد ردة الفعل هذه متوقعة واعتيادية، وكجزء من استراتيجيتها للتخفيف من هذا التحدي الجوهري، استعانت الشركة بديفيد بلوف، وهو محلل سياسي رفيع المستوى، واستراتيجي خبير في تأسيس الأعمال، وكان ضمن فريق العمل في حملة باراك أوباما الرئاسية لعام 2008م، وبالاستناد إلى الاستشارات قامت الشركة بتحسين حوكمتها، وبناء فريق إدارة أقوى، وأكثر تماسكًا من ذي قبل، وعكفت على إجراء التغييرات الهيكلية اللازمة للتأكد من أن العمليات الأساسية موجهة بالتكنولوجيا، وقادرة على إذابة المقاومة الخارجية في بيئة الأعمال، وبالقدر نفسه أن ثقافة الشركة تعزز الابتكار والتجديد، وتكافئ العمل التشاركي، وتشجع الموظفين على الالتزام على المدى الطويل، عبر حوافز ومسارات كسب الولاء المؤسسي.
جاء تأسيس شركة أوبر تكنولوجيز في لحظة فاصلة في مجال التكنولوجيا عموما، والتقنيات الرقمية على وجه الخصوص، إذ أدى ظهور الهواتف الذكية في مطلع الألفية، ومتاجر التطبيقات، إلى خلق معيار مغاير تمامًا لراحة المستهلك، وسرعة الاستجابة لمتطلبات التنقل الحضري، وهذا ما أدركته الشركة في وقت مبكر، وأصبحت العبارة الافتتاحية «اضغط على زر، واحصل على رحلتك» شيئًا أكثر عمقًا، ففي الذكرى الثامنة لتأسيسها، أحدثت الشركة نقلة نوعية من خلال نموذج عملها المستحدث والمتفرد، والذي يستجيب على نحوٍ استراتيجي للتحديات البشرية الكبرى؛ مثل الاستدامة البيئة، وأنسنة المدن، وأنماط الحياة الخضراء، وذلك بتفوق يجعلها خارج حدود المنافسة، ويحفظ لها قيمتها السوقية، تميز نهجها بالجرأة والبحث عن الفرص غير المألوفة، وتمكنت من الانتقال الذكي من منصة برمجية لتسهيل نقل الركاب، إلى النقل المرتبط بالصناعات الضخمة مثل الأغذية، والخدمات اللوجستية، ومنها إلى معمل الروبوتات، ومختبرات البحث والتطوير الممولة بمليارات الدولارات التي تصب اهتمامها لبناء سيارات ذكية ذاتية القيادة.
وهذا يضعنا في عمق مسيرة أوبر تكنولوجيز، وهي السمات التي جعلت منها شركة ناشئة ناجحة، ومختلفة إلى حد كبير، الشركة التي اكتسبت من معنى اسمها باللاتينية الذي هو الخصب، والوفرة، وكما وصفها مديرها التنفيذي بأنها من تلك «الشركات التي لا تتكرر سوى مرة واحدة في كل جيل»، وتتلخص سماتها في سعيها المستمر في اكتشاف ريادة الأعمال كما لم تعرفها الشركات، ورغبتها الواعية في تحمّل مخاطر استثمارية قد لا تقدم عليها شركات كثيرة، وهذه السمات شكّلت هالة من الصخب والحضور الإعلامي المؤثر، حتى خلال الفترات الصعبة التي قادت قرارات الشركة أعمالها إلى خطوات غير موفقة، إلا أن نهوضها من كل انتكاسة يعود إلى حسن التدخل في التوقيت المناسب، وإدارة التحوّل بمرونة تدعمها قوة النظام المؤسسي للشركة المدفوع بالابتكار اللامحدود، وكما جاء في تصريح التزام الشركة على لسان دارا خسروشاهي؛ الرئيس التنفيذي، حين قال: «يتعلق الأمر برسم مستقبل التنقل الحضري، وتشكيل المدن للأفضل، ونحن لم نفهمها دائمًا بشكل صحيح، لكننا لسنا خائفين من الفشل، لأنه يجعلنا أفضل، وأكثر حكمة، وأقوى من السابق، ونصبح أكثر التزامًا بإنجاز العمل كما يتوقعه منا عملائنا، والمجتمعات المحلية، والمدن، ومجموعة متنوعة من شركائنا الدوليين، وأكرر التزامي: فأنا لن أكون مثاليا، لكن سأستمع إليكم».
إن الفكر الاستثنائي لتجربة شركة أوبر تكنولوجيز في قيادة التحولات الكبرى هو مدرسة إدارية بحد ذاته، فالخطط، والاستشارات، والتوصيات تبقى في طي الأوراق إذا لم تتجسد عملية التحوّل في قرارات عميقة وملهمة، وفي منأى عن محدودية التركيز على تحقيق الإنجازات السريعة، وتجنب الفرص الاستراتيجية المحفوفة بالمخاطر، سعيا وراء مسارات أقل صعوبة، ولكسب الثقة بسرعة الوصول للأهداف، لأن النجاح لا يأتي من عدم الخطأ، وإنما يتحقق بإتقان قيادة العمل على مسارات غير مألوفة من رسم الحلم المنشود، والتجربة، والخطأ، والقياس، والتكيف، وإيلاء الاهتمام الجاد بالتعلم من القرارات التي لم تكن موفقة في السابق، وهو مسار ليس بالهين، ولكنه حتما يقود لتحقيق التطلعات بشكلٍ أكثر نجاحًا.
د. جميلة الهنائية باحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار