لمستقبل أفضل لأطفالنا
ينظر العالم بعين المترقب لعام 2022؛ ففي حين كان التفاؤل كبيرا بشأن التعافي من جائحة كوفيد 19 خلال الأشهر الأخيرة الماضية من عام 2021، اجتاح العالم متحور (أو ميكرون)، الذي بدأ معه مرحلة جديدة من الإجراءات الاحترازية. الأمر الذي جعل من بداية العام الجديد مقلقة، ليس على الصعيد الصحي وحسب بل على كافة الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بل وحتى البيئية. لذلك فقد كان جُل ما يفكر فيه العالم منذ بداية الجائحة هو كيفية حماية الأطفال والشباب من الآثار بعيدة المدى لتداعيات هذه الجائحة، ومع طول مدة انتشار هذا الوباء زاد اهتمام الدول بهذه الفئات؛ ذلك لأن الأهداف التنموية المستدامة لا تقوم سوى بضمان حمايتهم وتعزيز دورهم، فالعالم اليوم يُسارع نحو التعافي طويل المدى حتى يستطيع الوفاء بوعود 2030.
ولعل تجارب العالم في مجال التعليم خاصة أثناء تفشي الجائحة جعل المنظمات العالمية والمؤسسات المعنية بهذا القطاع تعيد النظر في الأنظمة التعليمية اعتماد على مبدأ التعليم للجميع من ناحية، والتعلم من أجل التنمية المستدامة من ناحية أخرى، وفي تقرير (أنقذوا تعليمنا. البناء لمستقبل أفضل) الصادر عن مؤسسة (حماية الأطفال) في لندن، محاولة لإجابة السؤال (ما الذي يتعيَّن على المجتمع الدولي فعله لتأمين تعليم الأطفال في الأزمات؟)، ولهذا فإنه يستعرض مجموعة من المخاطر الجديدة التي تواجه مؤشر التعليم في ظل تلك التداعيات التي عصفت بهذا القطاع خلال العامين الماضيين، إضافة إلى ما كان يعانيه من تحديات، ومن تلك المخاطر؛ الضعف أمام التغيرات المناخية المختلفة المتزامن مع مستوى الجاهزية وتحسين الاستعداد، والعوامل الإنسانية المتعلقة بالهجوم على التعليم وأهميته في ظل التداعيات المختلفة، ونسبة البطالة بين فئة الشباب من مخرجات التعليم، والإمكانات التقنية المتوفرة بشكل متساوٍ بين فئات المجتمع وإمكانات تلقي أنظمة التعليم بشكل سلس في كافة النطاقات الجغرافية.
ولهذا فإن التقرير يقدم مجموعة من الحلول المتعلقة بـ (اتباع نهج استباقي من خلال التخطيط المتأثِّر بالأزمات)؛ وهو تخطيط يصفه بأنه (تكراري)، و(مرن)، و(مبني على بيانات دقيقة). إن هذا النوع من التخطيط يتميز بقدرته على تقديم التعليم قبل الأزمات – أيَّا كان نوعها - وأثناءها وبعدها بالكفاءة نفسها، ولا يترك الأمر للصدفة أو للتخطيط الآني أثناء وقوع تلك الأزمات، ولذلك فإن التوسع في أساليب التعليم خاصة الإلكترونية منها يُعد واحدا من أهم تلك الأسس التي يقوم عليها (التخطيط المتأثِّر بالأزمات)، إضافة إلى الدعم الصحي والنفسي للتعليم، وتمكين البيئة التعليمية الآمنة.
ولعل تجربة سلطنة عُمان في التعليم عن بعد أثناء الجائحة والتحديات التي تواجه التعليم اليوم، لا تختلف عما واجهه العالم من حيث إمكانات ذلك التعليم، وقدرة وصوله إلى المستفيدين منه في محافظات السلطنة كلها وغير ذلك من التحديات، فلقد سخَّرت الدولة إمكاناتها المتاحة من أجل تحقيق الأهداف التعليمية خلال تلك الفترة؛ حيث تكاتفت الجهود بين المؤسسات المعنية بالتعليم والإعلام والتقنية وغيرها من أجل تحقيق تلك الأهداف الوطنية. ولأن جائحة كوفيد 19 لم تكن كأية أزمة سابقة مرَّت على العالم عامة، فإن التعامل معها لم يكن على قدر كافٍ من الوضوح، بل إن التحديات التي واجهها العالم خلال العامين الماضيين لم تكن هيِّنة، وبالتالي فإن قطاع التعليم من أكثر القطاعات المتأثرة بتداعيات تلك الأزمة.
والحق أن عُمان من أكثر الدول الداعمة للتعليم؛ حيث قدمت وما زالت العديد من المبادرات والمشروعات التربوية التي تنطلق من مفهوم (التعليم المستدام)، وهي بذلك تُسخِّر إمكاناتها المتاحة لهذا القطاع، انطلاقا من اعتباره أساس التنمية في القطاعات الإنمائية كلها، إلاَّ أن التعليم اليوم يمر بمرحلة مفصلية بين آفاقه قبل الجائحة وبعدها؛ ذلك لأن أهداف التعليم ورؤاه تغيَّرت بناء على تلك المعطيات الجديدة والمتغيرات التي تُعد من أبرز مخاطر التعليم في المرحلة المقبلة.
يحدثنا تقرير (فاقد التعلُّم بسبب كوفيد 19. إعادة بناء التعلُّم الجيد للجميع في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا) الصادر عن منظمة اليونيسف، عن (تعطُّل التعلُّم بسبب فيروس كورونا (كوفيد 19)، وتلك الآثار (الكارثية) على التعليم بسبب إغلاق المدارس، و قلة أو عدم وصول التعليم إلى المستفيدين، وبالتالي فإن (فاقد التعلُّم) في الأحوال كلها أدَّى إلى اضطرابات في تحقيق الأهداف المرجوة، ولهذا فإن دراسة وتقييم ذلك الفاقد وآثاره عليه أن يكون ضمن رؤية مستقبلية بعيدة المدى.
ولهذا فإن تقرير اليونيسف يُقدم مشروع (إتاحة التعلُّم للجميع)، الذي يعتبر أن "الوصول والمشاركة والبيئة التمكينية"، هي عوامل التمكين الأساسية والحاسمة للتعلُّم، وبالتالي فإن التخطيط لـ (الوصول السهل للتعلُّم) وإتاحته، وتعزيز (المتعلِّمين الملتزمين) – بتعبير التقرير – وتمكينهم من التعامل الفاعل مع الأطفال والناشئة بشكل خاص، وإيجاد (البيئة التمكينية) القادرة على إتاحة البيانات الشاملة (المطلوبة للتخطيط) ومراقبتها لتطوير استراتيجيات التعافي في قطاع التعليم، سيسهم في إيجاد أنظمة تعليمية أكثر (إنصافا)، و(مرونة) و(تمكينا) للجميع.
إن قدرة الدول على التعافي في مجال التعليم ودراسة الفاقد التعليمي، وتطوير الأنظمة والسياسات التربوية بما يتناسب والمتغيرات التي أحدثتها الجائحة، ستكون أحد أهم مؤشرات جودة التعليم، فما أحدثته الجائحة من خسائر تعليمية أدت إلى إحداث فاقد كبير ليس على مستوى تحقيق أهداف المراحل التعليمية وحسب، بل أيضا على مستوى المساواة بين المتعلمين في تلقي التعليم، وبالتالي فإن المؤسسات التعليمية اليوم لا تواجه تحديات التدريس الفاعل فقط، بل أيضا كيفية التعويض عن ذلك الفاقد!
ولعل من البديهيات التعويضية التي أتاحتها المؤسسات التعليمية لطلابها هي دمج المناهج التعليمية نفسها بحيث يتم التعويض عن ذلك الفاقد أو ما أطلق عليه تقرير اليونيسف بـ (التعلم الاستلحاقي)، غير أن مثل تلك الحلول قد تُسهم في تعويض المعلومات، لكنها لا تُساعد على التعلم المعرفي القائم على الاستثمار الفاعل والعادل في التعليم؛ ذلك لأنه يُكرِّس مفهوم التعليم القائم على التلقي لا المشاركة والتفاعل، وإن كان يُسهم بشكل ما في التعويض المهاري.
والحال أن آفاق التعليم المستقبلي قائم على مهارات تبني شخصية الأطفال والناشئة ليكونوا قادرين على التواصل الفاعل من ناحية، وممكَّنين من النواحي التقنية والإبداعية وبالتالي الابتكارية، ولهذا فإن عُمان تسعى جاهدة من خلال المؤسسات التربوية لتعزيز قدرات أبنائها، وتعزيز البيئة التمكينة للوصول المتاح والسهل للتعليم، لذا فإننا إذا أردنا تحقيق الأهداف المستقبلية للتعليم فإن علينا تقييم أنظمة التعليم، وتقوية البنية التكنولوجية في مدارسنا، ودعم المعلمين، وتمكين قدراتهم، إضافة إلى تعزيز التكيُّف والمرونة التعليمية لضمان التعلم المستدام للجميع من ناحية، وتطوير برامج التعلم من ناحية أخرى.
إن ما مرَّ به قطاع التعليم خلال الأعوام الماضية يستدعي التعاون والمشاركة المجتمعية من أجل حماية أبنائنا تعليما وتعلُّما؛ فالفاقد الذي نتحدَّث عنه ليس معرفيا أو مهاريا وحسب، بل أيضا سلوكيا وصحيا ونفسيا؛ ذلك لأن الأطفال والناشئة واجهوا خلال فترات الإغلاق والتعليم عن بُعد العديد من التحديات والإشكالات النفسية التي ستنعكس ليس فقط على قدراتهم التعليمية بل على سلوكهم الاجتماعي أيضا، وبالتالي فإن دراسة هذا الفاقد ليس مهمة المؤسسات التربوية وحدها بل مهمتنا جميعا.
وإذا كانت (خيبة أمل الشباب) أهم المخاطر المستقبلية بعد كوفيد19، فإن خيبة أمل الأطفال والناشئة أشد خطورة، وأقسى وقعا على المجتمع، ولهذا فإن ما نقدمه لهم من مناهج تدريسية ومهارات، وما يوفره لهم العالم المنفتح عبر وسائطه المختلفة، وما نعلِّمه لهم في الأوساط الاجتماعية، سيشكِّل بناءً تربويا قادرا على جعلهم أكثر تفاؤلا وانفتاحا، وقابلية على التعلُّم، وفاعلية في بناء وطنهم، إذا ما أشركناهم معنا في تقرير ما يريدونه لغدهم، وإذا ما قدَّرنا عقولهم، وتعاملنا معهم باعتبارهم منتجين ومحققين لأهداف الرؤى المستقبلية، وليكن أمام ناظرينا أنهم كانوا مشاركين فاعلين في رؤية عُمان 2040، فهم أهدافها الحقيقية، وهم ركائز استدامة التنمية المجتمعية. فإذا ما أردنا لوطننا الازدهار فعلينا الاستثمار الإيجابي والفاعل في أبنائنا لغد مشرق ومستقبل أفضل.