لماذا يستفزنا نديم قطيش لهذا الحد؟
رغم أن مستخدمي الشبكات الاجتماعية ما قصروا في نديم قطيش، إلا أنني أُريد تحليل خطابه أكثر لنفهم لما يستفزنا هراء «الشرقين أوسطين» لهذا الحد. أعتمد في نقدي على المقال الذي نشرته الشرق الأوسط في 26 مارس 2024، الذي يحمل شكلا ومضمونا ما قاله على سكاي نيوز، ربما مع بعض التفصيل.
يقول في الفقرة الثانية: «في غزة، يصارع أكثر من مليون فلسطيني شبح المجاعة، في حين تنفق مدن مئات المليارات من الدولارات للتطوير». وصياغة الأمر بهذه الطريقة يقول لنا أن ثمة واقعين: الأول، واقع تفرض فيه قوى متحكمة (إسرائيل ومسانديها) على مجتمع غزة المجاعة، فيما تصل مجتمعات من الرفاه بحيث تُقامر بملايين الدولارات في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي الجديدة. فيما يُدرج في الفقرة التالية الأسباب التي يعتقد قطيش أن المجاعة نتيجتها، فيقول: «غزة اليوم فريسة للنتائج المميتة لمشروع تهيمن عليه أيديولوجيا المقاومة، وضحية مكشوفة بناسها وعمرانها لسياسات محددة عاجزة عن تجاوز صراعات الماضي والتأسيس لمستقبل آخر.» وفقا لقطيش ثمة سببان للإبادة في غزة. الأول، يتمثل في تبني أهالي غزة لأيدولوجيا المقاومة، أما الثاني فيتمثل في عدم تحركهم باتجاه تجاوز صراعات الماضي. نفهم أن صراع الماضي الذي يعنيه هنا هو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. اعتبار هذا الصراع ينتمي إلى الماضي، يعني أن الكاتب لا يؤمن أن إسرائيل -ما قبل 7 أكتوبر- كانت تفرض على الغزيين بشكل يومي ظروفا خانقة تمنعهم من ممارسة الحياة الطبيعية، هذا إذا ما استثنينا الحروب المُدمرة العديدة التي مرت على القِطاع. ينطلق الكاتب في نقده من منطق مغلوط وهو اعتبار أن الفلسطينيين والخليجيين تتوفر لهم الظروف ذاتها، في تجاهل لوقوع أراضيهم تحت الاحتلال لثلاثة أرباع قرن، تعرضهم للتطهير العرقي، للحصار، الفصل العنصري، القتل، السجن، التعذيب، النزوح المتتالي، العقاب الجماعي، إلى آخره من أشكال القهر التي تجعل الحياة الطبيعية غير ممكنة. فما بالك بأن يكون لديهم رفاه التخطيط للمستقبل، والمقامرة بملايينهم في استثمارات غير محسوبة، توحي -على نحو مزيف ومقنع- بالتنمية والتطوير (وهذا سنتناوله لاحقا). فوق هذا فهو يُحمّل الضحايا مسؤولية مصيرهم، عوضا عن نقد الفاعل، ونقد المتواطئين. فثمة سياق جعل حماس تحكم القطاع. تأييد ما فعلته حماس من عدمه شيء، والفصل بين السلطة الحاكمة والمحكومين شيء آخر تماما. هذا في الظروف التي تتولى فيها القوة الحاكمة السلطة على نحو طوعي عبر الانتخابات، فما بالك ببؤرة صراع، تحكم فيها قوة تمكنت من تولي السلطة عبر انقلاب.
أما عن تبنيهم للمقاومة، فالمقاومة -كما أفهمها- وبحكم التعريف، تأتي كردة فعل للتعرض للظلم (أيا كان)، إنها تعني أنك الطرف الأضعف في الصراع، وأنك تستخدم ما بيديك من أدوات (مهما قلت، ومهما ضعف مفعولها) لرفع هذا الظلم. فأنت لا تُسمي افتعال روسيا لحربها ضد أوكرانيا مقاومة، بينما ينطبق على دفاع أوكرانيا عن نفسها مفهوم المقاومة. المقاومة إذن ليست خيارا، ويُمكن أن ينبري تحتها عدد لانهائي من الأفعال. فحمل مفاتيحك حول عنقك حتى تحين العودة - مقاومة، وزرع أشجار الزيتون كُلما اقتلعت - مقاومة، وأن تطبخ العدس كل يوم لمن هُجروا من الشمال - مقاومة أيضا، وحمل السلاح مقاومة لا شك في مشروعيتها. ولنفترض أن للفلسطينيين أن يختاروا بين الرضا بالاستعمار، ومقاومته. كيف لنا أن نجعل الرضا أرفع شأنا أخلاقيا من المقاومة؟ عندما نكون أمام معضلة أخلاقية كثيرا -أجرؤ أن أقول غالبا- ما يكون الفعل الفاضل (كما يحب أن يسميه الفلاسفة) أصعب من الرذائل. الاستسلام أسهل من التغيير، والرضا بالشيء أيسر من رفضه وتحمل ثمنه الذي كثيرا ما يكون باهظا.
يتحدث قطيش في الفقرة نفسها عن «(إعلاء) أولويات السلام». فكرة السلام في السياق الفلسطيني مهمة؛ لأنها لطالما استخدمت كعذر لاستدامة توسيع المستعمرات، وكل أشكال الظلم التي تأتي مع الاستعمار، بينما تجري مباحثات السلام مثل إلهاء عما يحدث على الأرض. لمباحثات السلام أيضا وظيفة أخرى، وهو تأطير القضية بشكل يُساوي بين الطرفين. فيما ينزع من الفلسطينيين حقهم في استعادة الأرض، العودة، تحديد المصير، والتأكيد أن الوجود الإسرائيلي غير مشروع البتة، وما كانت الدولة الإسرائيلية لتوجد لو أن العالم -لا أقول يسير بمبادئ العدالة- ينبري للمبادئ نفسها، دون تمييز. مفاوضات السلام تضع العرب في موقع مساومة، وتعرضهم لضغط يدفعهم للقبول ببعض ما لهم، عوض أن يُرد لهم حقهم الكامل.
لن أُعلق على عدم سياقية ما يقوله عن هجمات السابع من أكتوبر؛ لأننا «خلّصنا الكلام» في هذه المسألة لكثرة ما «عدنا وزدنا فيها».
قبل أن أُنهي المقال، أُحب التعليق على تقليعة الذكاء الاصطناعي. من يُتابع مبادرات الإمارات والسعودية في هذا المجال، يُدرك بسهولة أن استثماراتهم في المجمل شكلية، إنها تدعي المواكبة، بل والريادة، دون أن توفر الظروف للتطوير وأهمها الوعي الحقيقي، والمساءلة الأخلاقية والقانونية لهذه التكنولوجيا.
نعم ثمة شرقان أوسطان، شرق نجحت فيه القوى الاستعمارية للتوصل إلى صيغة تُقنّع فيها استعمارها تحت أقنعة الاستشارات والصفقات الاقتصادية، وشرق آخر يظهر فيه بجلاء بطش الاستعمار والاستغلال والعنصرية. شرق وُفرت له ظروف تُلهيه بما يكفي ليكون راضيا ومستكينا، وآخر تُجبره الظروف على أن يصمد ويقاوم. شرق تقدر فيه السلطة على شراء الأصوات، وملاحقتها -إن تعذر الشراء-، وشرق لا يملك رفاهية اللعب الناعم، فتتواطأ فيه السلطة مع الجناة، وتساهم في الإبادة. شرق يشتعل، وشرق يُوشك أن يشتعل.