لماذا يزداد الاستيطان وتكريس الأمر الواقع في الأراضي المحتلة؟

28 أغسطس 2024
28 أغسطس 2024

منذ استلام الأحزاب الإسرائيلية من اليسار واليمين ومن تحالف معهم الحكم في إسرائيل بعد حرب 1948، وحزب الليكود بالأخص، والمستوطنات الصهيونية، قائمة سنويا تقريبا من الأحزاب، ولم تتوقف في الأراضي العربية الفلسطينية، منذ احتلالها، سواء في الضفة الغربية أو القدس الشرقية، فقد قامت إسرائيل منذ سنوات قليلة، باقتطاع ما نسبته 42% من أراضي الضفة الغربية ومن القدس، وكذلك الاستيطان في غلاف غزة الذي تم اقتطاعه من هذه المدينة بعد حرب عام 1967، صحيح أن الاستيطان بدأ منذ احتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية قبل ذلك بكثير، لكنه لم يكن بذلك التوسع والتكاثر في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فقد بدأ محدودًا في البداية، ومع تعاقب الحكومات الإسرائيلية، بدأت الحكومات الإسرائيلية من اليسار واليمين في إسرائيل، بتقديم الكثير من التسهيلات والحوافز والدعم، خاصة للمستوطنين لإقامة العديد من البؤر الاستيطانية الجديدة، لكنها ازدادت بصورة كبيرة بعد اتفاقية أوسلو في عام وما بعدها 1993، والغريب أن استمرار إقامة المستوطنات في الضفة الغربية، غير القانونية في القانون الدولي من خلال قرارات الأمم المتحدة المتعاقبة، وحتى في القانون الإسرائيلي الذي كان يمنع إقامة مستوطنات في الضفة والقطاع ! لكن هذه القوانين مجرد قوانين فارغة من الإلزام، لا تطبق إلا على الدول التي لا تكون في فلك الدول التي تختلف مع الغرب الليبرالي وهي التي تقف مع إسرائيل وتؤيدها في أغلب ما تقوم به من أفعال، منها ما يجري في غزة من إبادة جماعية بعد السابع من أكتوبر الماضي. فالولايات المتحدة، تعلن دائما أنها ضد إقامة المستوطنات والتي تقام في الضفة الغربية والقدس الشرقية، لكن لا تتخذ موقفاً قوياً قانونياً يتناسب مع هذا الرفض، وتستعمل عشرات القرارات من حق النقض (الفيتو)، ضد أي قرار دولي يطالب بمعاقبة إسرائيل، أو تنفيذ قرارات من الأمم المتحدة، ومنها أكثر من قرار لوقف الحرب في قطاع غزة ووقف الانتهاكات المستمرة، أو معاقبة مجرمي الحرب في غزة، من أمثال نتنياهو وبعض القيادات العسكرية بحسب محكمة العدل الدولية الذين صدرت بحقهم أحكام منذ عدة أشهر.

وفي القدس الشرقية تتحرك الجماعات المتطرفة متمثلة في الصهيوني بن غفير، الوزير في حكومة الليكود بنشاطات متواصلة، ليس في إقامة المستوطنات، بل وحتى في التحرك لهدم المسجد الأقصى وتغيير معالم الآثار الإسلامية، من خلال المسيرات الأسبوعية لاستباحة باحات المسجد، وبحراسة الشرطة الصهيونية.

والأسبوع المنصرم صادقت حكومة نتنياهو على إقامة 1738وحدة سكنية في القدس الشرقية المحتلة، وهذا القرار ينضاف إلى آلاف البؤر الاستيطانية الصهيونية منذ احتلال القدس الشرقية والضفة الغربية أيضا منذ عام 1967، كما أشرنا آنفا، وهذا يؤكد ما تسعى إليه حكومة الليكود من تهويد القدس كلها تحت مسمى القدس الموحدة، وغير المكترثة بما تصدره المنظمات الدولية، ولا قرارات الأمم المتحدة بخصوص المدينة المقدسة والآثار المحيطة بها.

ومن هذه المنطلقات الصهيونية المستمرة تجاه الأراضي الفلسطينية، فإن هذه المواقف الإسرائيلية تجاه المستوطنات أنها تريد الاستمرار في عدم الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، والحكومة الإسرائيلية المتطرفة متوافقة مع الممارسات المتطرفة للمستوطنين تجاه الشعب الفلسطيني في القدس وبقية الأراضي العربية الفلسطينية، وهو التحرك المستمر لتهويد المقدسات الإسلامية والمسيحية، وكأن الاتفاقات والتطمينات الأمريكية، والوعود بإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة ـ كما قالوا في اتفاقية أوسلو وقبلها في مؤتمر مدريد ـ مجرد أوهام ليس لها حظ من التطبيق الفعلي بعد أكثر من ثلاثة عقود على مؤتمر مدريد للسلام في مدريد بإسبانيا. والأمر اللافت في الأمر، هو صمت المسؤولين الأمريكيين والغربيين عمومًا، بصورة تدعو للغرابة عن هذه الأفعال والممارسات العدوانية والتنصل من الاتفاقيات والتطمينات بالدولة الفلسطينية الموعودة ووقف الاستيطان! والى الآن ينعتون إسرائيل بالدولة الحضارية والديموقراطية. والاستيطان نشأ في أحضان الدولة الإسرائيلية العبرية العلمانية عبر أكثر من قرن أو يزيد، ووفرت لهم الحماية والبرامج ووسائل الإقامة الدائمة.

وإذا عدنا إلى المصادر الأصلية للعنصرية الصهيونية، نجد، كما يذكر د. محمد عابد الجابري أن : «المشروع الصهيوني العنصري ولد في رحم الأفكار العرقية التي اجتاحت الساحة الأوروبية، فعندما ظهرت مقولات الإنسان الغربي الأبيض المتفوق عرقيًا وعقليًا وحضاريًا، ابتدع الصهيونيون مقولة شعب الله المختار، ومثلما للغرب رسالة حضارية تمدينية، فإن الصهيونية ستكون في وطنها القومي الجديد «في فلسطين رسالة حضارية وديمقراطية». وهذا ما ظهر في كتاب هرتزل الشهير الذي صدر في 1896(الدولة اليهودية).

وقبل هرتزل بكثير، كان «موسى هس» قد دعا إلى الاستحواذ على أرض قومية مشتركة لليهود، كشرط ضروري لتأسيس مجتمعات زراعية وصناعية وتجارية تطبق المبادئ اليهودية: «وبهذه المجتمعات تستطيع الأمة المستعادة أن تقوم كحارس على ملتقى القارات ومعلم للشعوب الشرقية المتخلفة». هس هنا، يتخيل دورا خاصا للدولة اليهودية داخل إطار التمدن والتحضر اللذين تضطلع بهما دول الغرب في ركاب فتوحاتها وغزواتها. وفكرته هذه هي التي سيصوغها هرتزل بعد ذلك في وصف الدولة اليهودية بأنها «سويسرا اليهودية» التي تقوم كنموذج ومثال لليبرالية الارستقراطية بين أمم الشرق المتخلفة.

الآن وبعد أكثر من مائة عام على تصورات آباء الصهيونية الأوائل، نلاحظ أن قضية الاستعلاء الاستعماري العنصري ما زالت أحد لوازم الحركة الصهيونية ودولتها الاستيطانية. فعندما يتحدث القادة الصهاينة عن «الشرق الأوسط الجديد»، كما هو شيمون بيريس في كتابه المعنون بذلك، فإنهم يعيدون إنتاج مقولات المؤسسين عن التفوق اليهودي ورسالة تحضير أو تمدين الآخرين ـ الذين هم العرب ـ في ظروف إقليمية ودولية مغايرة.

وإذا بحثنا عن الأفكار الأساسية للصهيونية العنصرية في هذه المقولات التي أشرنا إليها، نجد أن ممارساتها العنصرية واضحة وغير خفية عن العالم أجمع، وهذا ما جعل تنظيف المدن الفلسطينية من الإنسان الفلسطيني فكرة قائمة في الفكر الصهيوني منذ نشأة هذا الكيان، لا يختلف عن تنظيف الأمكنة الوعرة من الهوام والحشرات السامة.

وعلى هذا فإن الصراع، لا يدور بين خصمين أو قوتين تنتميان إلى عالم واحد، بل بين عالمين مختلفين أو بين تاريخين مختلفين، يقول بيغن: «ينبغي أن ندرك أنه لا مكان في هذه البلاد لشعبين، إن الحل الوحيد هو فلسطين بلا عرب، وليس هناك سبيل غير طرد العرب إلى البلدان المجاورة. طردهم جميعاً بلا استثناء. وينبغي ألا تبقى هنا أية قرية ولا أية عشيرة.

تعكس المفاهيم الصهيونية ذاتها حتى على مستوى الكلمات والمفاهيم، فبعد أن يقول بيغن بـ «شعبين» لا يلبث أن يستدرك فيقول بـ «القرية» و «العشيرة» وهما ينتميان إلى تاريخ اجتماعي ساذج ومتخلف، أضف إلى ذلك أنه يستعمل كلمة طرد التي تتضمن معنيين: عدم إمكانية العيش مع فرد أو قرية فلسطينية من ناحية، ومعاقبة المطرود من ناحية ثانية، فهو غير مرغوب فيه وجدير بالعقاب والاضطهاد».

إن الاستيطان الإسرائيلي المستمر منذ 1967 إلى الأسابيع الماضية.. يبرز أن الدولة العبرية غبر جادة في السلام العادل، وإقامة الدولة الفلسطينية، وأن اللقاءات والمفاوضات في السنوات الماضية مجرد تسويف وتمييع للمواقف، للمراهنة على الضعف والتشتت والانقسام الفلسطيني والعربي، لتمرير مشاريعها في التهويد وتكريس الاحتلال الذي تؤكده الوقائع والممارسات على الأرض.

فبعد أكثر من مائة عام على تصورات آباء الصهيونية الأوائل نلاحظ أن قضية الاستعلاء الاستعماري العنصري ما زالت أحد لوازم الحركة الصهيونية ودولتها الاستيطانية، يبرز بجلاء أن الدولة العبرية غير مكترثة بالسلام العادل، وهذا ما تؤكده الوقائع والممارسات الصهيونية على الأرض ومن خلال الممارسات المستمرة في إقامة المستوطنات ومن التحركات بالتصريح أو التلميح لتهويد مدينة القدس على الأرض.. فهل تدرك الجهات المعنية العربية والإسلامية بخطر السيطرة على المسجد الأقصى، بحجة توحيد كل المناطق التي أصبحت هدفا للتهويد، وهذا ما ينبغي الانتباه إليه وعدم السكوت على ما تفعله العصابات الصهيونية من تحرك للسيطرة على الأماكن المقدسة الإسلامية والإعلان عن تهويدها صراحة.