لماذا نكتب؟
لست بأول من يسأل هذا السؤال، فقد سأل سارتر هذا السؤال نفسه في كتابه الشهير: «ما الأدب»؟ وكان قصد سارتر من هذا السؤال أن يميز بين كتابة الشعر وفن النثر (بما في ذلك فن المقال بطبيعة الحال): فالشاعر حر طليق يصور الأشياء كيف يشاء، وهو في النهاية يبدع لنا صورة متخيلة باستخدام الكلمات، وهو في ذلك لا يختلف عن المصور الذي يستخدم الخطوط والألوان، فالكلمات في القصيدة هي مثل العشب والأشجار في اللوحة. أما الكاتب فإنه لا يستخدم الكلمات على هذا النحو، لأنه لا يحلق في مملكة الحرية والخيال، وإنما يستخدم الكلمات على نحو ملتزم إزاء واقعه الاجتماعي والسياسي والتاريخي، وهو يستخدمها ليقول شيئًا عن هذا الواقع. وبوسعنا أن نضيف الكثير إلى مقولات سارتر فيما يلي من سطور:
الكاتب لا يكتب من أجل نفسه، أعني من أجل التعبير عن همومه ومشاعره الذاتية وأحلامه وطموحاته، حتى إن كانت لها دلالة إنسانية عامة (كما في الشعر مثلًا)، وإنما يكتب دائمًا من أجل الآخرين، حتى إن جاءت كلماته مشحونة بعواطفه وانفعالاته؛ فهو يكتب دائمًا من أجل القارئ، واضعًا في اعتباره أن القراءة هي عملية خلق للمعاني والدلالات بتوجيه من المؤلف أو الكاتب من خلال أقواله الصريحة والمضمرة المتضمنة فيما يكتب. والواقع أن القارئ يكون حاضرًا دائمًا في وعي الكاتب حينما يشرع في الكتابة، فالكاتب لا يكتب لكي يخاطب قارئًا «لا-زمانيًّا»، وإنما يكتب لكي يقول شيئًا ما لقارئ زماني يعيش في عصر ما وفي سياق تاريخي واجتماعي معين. وهذا هو السبب في أن ما يقوله الكاتب ينبغي تأويله في إطار هذا السياق، وهذا هو السبب أيضًا في أن الكاتب يكون- أو ينبغي له أن يكون- مهمومًا بقضايا عصره ومشكلات واقعه المعيش.
نحن نكتب -أو ينبغي أن نكتب- لنقول شيئًا ما. ومن هنا فإننا نأخذ على كل الاتجاهات الشكلانية في دراسة النصوص إغفالها لما يقوله النص (سواء كان النص نصًا أدبيًّا أو غير أدبي)، وهذا هو في الحقيقة الفارق الجوهري بين الشكلانية والظاهراتية: فالشكلانية هنا هي -في جوهرها- تطبيقات للغويات في مجال دراسة النصوص، فهي تهتم في المقام الأول ببنيات اللغة بدلًا من اهتمامها بما تقوله اللغة المقولة. وفي مقابل ذلك، فإن الظاهراتية هي فلسفة تسعى إلى فهم معاني الظاهرات أو الأشياء بما في ذلك النصوص؛ ومن ثم فإن مناط اهتمامها يكون موجهًا في المقام الأول إلى فهم المعنى المقصود من وراء ما يُقَال. وهذا يعني أننا ينبغي ألا نغفل أبدًا عن معنى ما يُقال، ونغرق في اهتمامات شكلانية لا تُعني القارئ للنص، ولا تعينه على تعميق فهمه له، وإنما تشغل فحسب اهتمام المتخصصين اللغويين.
وإذا كنا نكتب لنقول شيئًا ما، فإن هذا يعني -فيما يعني- أننا لا ينبغي أن نستهلك الكلمات في الكتابة، فما المقصود باستهلاك الكلمات؟ استهلاك الكلمات لا يعني فحسب استخدام كلمات أو عبارات مستهلكة، بمعنى استخدام كلمات وعبارات يتم تداولها دائمًا في كل سياق بين العوام وغير العوام من دون تدبر لمعناها؛ وإنما يعني أيضًا استخدام الكلمات على نحو لا تقول فيه شيئًا ذا معنى يمكن النظر فيه أو تأمله، فالكلمات عندئذ تصبح أشبه بزوائد يمكن الاستغناء عنها أو الالتفات إليها! ذلك أن كل كلمة، وكل عبارة تتألف من كلمات، ينبغي -قدر الإمكان- أن تكون ضرورية في توصيل المعنى المراد أو الإيحاء به. وفي هذا -على وجه التحديد- يكمن الفارق بين قيمة الكتاب على اختلاف صنوفهم فيما يكتبون. ولذلك فإننا غالبًا ما نجد مقالات مكتوبة بلغة تستهلك الكلمات بحيث لا تقول لنا شيئًا يمكن أن نتوقف عنده أو يضيف إلى معرفتنا شيئًا جديدًا، حتى إن كان هذا الجديد مجرد فكرة أو ملاحظة. وربما يسمح لي القارئ أن أسوق هنا شيئًا من تجربتي في الكتابة؛ لأن هذا يمكن أن يُلقي الضوء على شيء مما أريد قوله:
أكتب للصحف منذ ثلاثين سنة على الأقل. ومنذ عشرين سنة أواصل الكتابة في بعض الصحف المصرية والعربية. كنت أكتب لجريدة الأهرام المصرية ومن بعد ذلك لجريدة الاتحاد الإماراتية مقالًا في حدود ألف وخمسمائة كلمة، ثم أصبحت أكتب لجريدة عمان مقالًا أسبوعيًّا في حدود نصف هذه الكلمات، وهو عدد معقول لمخاطبة القارئ الذي لم يعد يقوى على قراءة المقالات المطولة في عالمنا المعاصر. يستغرق مني هذا العدد المعقول من الكلمات قرابة أسبوع كامل، فلا بد لي أولًا من البحث عن فكرة جديدة أو إضافة بسيطة للأفكار التي سبق أن تناولتها في مئات المقالات السابقة، وذلك من أصعب الأمور. ثم لا بد لي من بعد ذلك أن أشرع في بناء الأفكار الفرعية التي تتفرع عن هذه الفكرة الرئيسة، والتي تشكل جسم أو متن المقال. ثم لا بد لي في النهاية أن أصوغ ذلك كله في عبارات دقيقة تعبر عما أريد قوله والإفصاح عنه بوضوح قدر الإمكان.
ولكن المعضلة الكبيرة التي يواجهها الكاتب في عالمنا العربي هو أنه حينما يكتب يشعر بأنه مقيد أو على الأقل يفرض على نفسه قيودًا ذاتية؛ ولذلك فإنه يتحسس كلماته، ويمضي وقتًا طويلًا في النظر فيما يمكن أن يُقال وما لا يمكن أن يُقال. وأشهد أنني لم أعانِ هذا العبء كثيرًا حينما أكتب لهذه الجريدة الرصينة: جريدة عُمان.